مشاريع تّهجير اهل غزة ما زالت على الطّاولة وأحدثها إلى كُردستان العِراق!!
كتب / عبد الباري عطوان
نقطتان رئيسيّتان تحتلّان قمّة الاهتمامين الأمريكي والأوروبي هذه الأيّام، وتُعتبران محور اتصالات ودراسات مُوسّعة لمراكز الأبحاث، والمؤسّسات السياسيّة الحُكوميّة، للتوصّل إلى مُقترحاتٍ عمليّةٍ، وخريطة طريق واضحة المعالم لمُستقبل قطاع غزة:
الأولى: تهجير أكثر من مليون ونصف المليون من أبناء قطاع غزة إلى أكثر من 65 دولة في العالم، لتخفيض الكثافة السكانيّة، وتوفير الأمن الدّائم لدولة الاحتِلال الإسرائيلي، واستِمرار المشروع الصّهيوني الذي بدأ ينهار.
الثانية: إيجاد بديل مدني لحُكم حركة “حماس” في القِطاع، وهُناك ثلاثة خِيارات مطروحة، الأوّل: عودة السلطة الفلسطينيّة، والثاني إرسال قوّات دوليّة على غِرار ما كان عليه الحال قبل احتِلال القِطاع عام 1967، والثالث: عودة الإدارة المِصريّة العسكريّة إلى القطاع تحت مُسمّى جديد وهو “الانتِداب”.
***
مشروع تهجير أبناء القطاع إلى أماكنٍ عديدة في العالم، سواءً في دُول الجِوار مِثل مِصر، أو دُول الخليج، وخاصَّةً المملكة العربيّة السعوديّة، أو في دُول غربيّة معروفة باستِيعابها للّاجئين مِثل كندا وأمريكا وأستراليا ونيوزيلاندا.
دُول الخليج التي لم تقبل لاجِئا سوريا واحدا أثناء بداية الأزمة السوريّة، رُغم أنّ دُوَلًا فيها موّلت الحرب لإسقاط النظام وما زالت، تُعارض بقُوّةٍ مشاريع التّوطين لأبناء القِطاع على أراضيها، ولكن بعضها مُستَعِدٌّ لتمويلها في دُوَلٍ أُخرى مِثل سيناء المِصريّة والأردن والعِراق.
من أغرب الأماكن التي كانت وما زالت موضع نقاش لاستيعاب المُهجّرين من أبناء قِطاع غزة إقليم كردستان العِراق، فأثناء الزيارة التي قام بها السيّد نيرفان بارزاني رئيس إقليم كردستان العِراق لفرنسا قبل بضعة أيّام فُوجئ بالمسؤولين الفرنسيين يطرحون عليه استقبال أربعة آلاف أسرة فِلسطينيّة من قِطاع غزة مع عُروض ماليّة ضخمة، وقيل إن السيّد بارزاني رفض المُغريات الماليّة، لأنّ العرض سيُؤثّر سلبًا على التّركيبة العِرقيّة والسكّانيّة، علاوةً على أخطاره على الأمن الوطني للإقليم، والأهم من هذا وذاك مُعارضة مُزدوجة من سُكّان الإقليم أوّلًا، والسّلطة والشّعب العِراقي وحُكومة بغداد بشَكلٍ عام.
هُناك مخاوف من نجاح الضّغوط والمُغريات الماليّة على دُوَل الجِوار، وخاصَّةً مِصر والأردن، للقُبول بمِئات الآلاف من المُهجّرين من أبناء القِطاع، بسبب الأوضاع الاقتصاديّة المُتدهورة لهذه الدّول، وحاجتها إلى المال لتسديد أقساط دُيونها وفوائدها، فمِصر تحتاج الآن إلى 29 مِليار دولار فورًا للإيفاء بالتزاماتها في هذا المِضمار، والشّيء نفسه يُقال عن الأردن أيضًا، الذي باتَ مُهَدَّدًا بعمليّةِ تهجيرٍ أكبر للاجئي الضفّة الغربيّة إلى أراضيه، ووجود حواليّ مِليوني لاجئ سوري وعِراقي على أرضه في الوقت الرّاهن، ووصول دينه العام إلى 50 مِليار دولار.
السيّدة أورسولا فون ديرلاين رئيسة المُفوّضيّة الأوروبيّة والمعروفة بدعمها المُطلَق لدولة الاحتِلال، وعُدوانها ومجازرها في قِطاع غزّة، وتبنّي مشروع التّهجير بشقّيه القَسْريّ والتطوّعيّ، قامت بزيارةٍ مُريبةٍ إلى كُل مِن مِصر والأردن اليوم وأمس حاملةً معها عُروضًا ماليّةً لمِصر (10 مِليار دولار) وللأردن (5 مِليار دولار) ووجدت رفضًا من حُكومتيّ البلدين مثلما جاء في البيانين الرّسميين اللّذين صدَرا في خِتام الزيارة، ولكن ليس دائمًا تكون هذه البيانات انعكاسًا حقيقيًّا لما تمّ مُناقشته أو الاتّفاق عليه في الغُرف المُغلقة، ونأمَل أن نكون مُخطئين.
هُناك ثلاث محطّات رئيسيّة يجب التوقّف عندها بعد سرد كُل ما تقدّم:
الأولى: أن الحرب في قطاع غزّة ما زالت مُستمرّة ودخلت شهرها الثاني، وتُؤكّد مُعظم التّقارير أنها ستطول، ولم تنجح دولة الاحتِلال في تحقيق كُل أهدافها غير الإبادة الجماعيّة وقصف المُستشفيات والتّهجير الدّاخلي.
الثانية: ما زالت حركة حماس الحاكِم الفِعلي للقِطاع قويّة، وتكسب مُعظم المُواجهات في الحرب البريّة الحاليّة، بينما تتفاقم خسائر الجيش الإسرائيلي بشَريًّا ومادِّيًّا، علاوةً على تدمير ما يَقرُب من 200 دبّابة ومُدرّعة وحامِلات جُنود حتّى الآن، بمعنى آخَر، أيّ الأمريكان وأتباعهم، أنهم يتقاتلون على جلدِ الدّب قبل صيده.
الثالثة: لا يتم أيّ اعتبار لرأي أبناء قِطاع غزة في مسألة من يَحكُمهم، أيّ أنّ أمريكا زعيمة العالم الحُر، وقيم العدالة، والحُريّات، والديمقراطيّة، ومعها شُركاؤها الأوروبيّون، تُريد فرض حُكمًا بالقُوّة عليهم، ودُونَ استِشارتهم، وهذا قمّة الديمقراطيّة وحُقوق الإنسان.
***
الغالبيّة السّاحقة من أبناء القِطاع لن يقبلوا بالعودة إلى حُكم سُلطةٍ فاسدة، وفاشلةٍ، وقمعيّةٍ، مُتواطئةٍ مع الاحتِلال، وتعمل قوّاتها الأمنيّة (60 ألفًا) في خدمة الاحتِلال وحِماية المُستوطنين، والتجسّس على أبناء الشّعب الفِلسطيني في الضفّة، ومُحاربة كُل أنواع المُقاومة للاحتِلال ومشاريعه الاستيطانيّة والتهجيريّة الحاليّة والقادمة، فإذا كانَ مُعظم أبناء الضفّة الغربيّة الشّرفاء يُريدون الإطاحة بهذه السّلطة، ولا يعترفون بها، فكيف يقبلها أبناء القِطاع الذين يُعانون من تمييز السّلطة المناطقي ضدّهم حسب أقوال الكثير منهم رُغم اعتِراض بعضهم على حُكم حركة “حماس”.
أمّا إذا انتقلنا إلى الخِيارات الأُخرى أيّ العودة إلى خيمة “الانتِداب” المِصري بصُورته الجديدة المُقترحة، أو عودة القوّات الدوليّة إلى القِطاع، فهي مُجرّد أضغاث أحلام تُؤكّد أنّ من يبحثون في مُستقبل القِطاع ينعمون بأعلى درجات الجهل وقلّة المعرفة، وأنّ معلوماتهم وتقييماتهم للأوضاع على الأرض قديمةٌ جدًّا، ولا تستوعب المُتغيّرات في المُجتمع الفِلسطيني في القِطاع وطُموحات أجياله الجديدة الشابّة.
أكثر من 80 بالمِئة من أبناء القِطاع هُم من المُهجّرين من المُدُن والقُرى والبلدات الفِلسطينيّة في جنوب فِلسطين، وهؤلاء لن يقبلوا بديلًا عن العودة والتّحرير الكامِل لفِلسطين التاريخيّة، أيّ أن نسبة قليلة منهم تقبل بحلّ الدّولتين الذين يعزفون على أوتاره حاليًّا في أمريكا وأوروبا ومُعظم الدّول العربيّة.
البديل عن حُكم “حماس” في نظر الكثيرين هو العودة إلى فِلسطين التاريخيّة المُحرّرة، وعلى أنقاض الحُكم العُنصري الفاشي الصّهيوني، وحتى يتحقّق هذا الهدف، فإنّ الغالبيّة العُظمى من أبناء القِطاع قد يلتفّون حول الحُكم الحالي لأنّه يُجسّد خِيار المُقاومة بالنّسبة إليهم، ولا نُبالغ إذا قُلنا إن شعبيّة حُكومة المُقاومة تزداد قُوّةً وصلابةً يومًا بعد يوم مُنذ بدء الحرب، مع تفاقم ضعف السّلطة وفسادها، وانحِياز أمريكا والعالم الغربيّ إلى التّطهير العِرقي والإبادة الجماعيّة التي تُمارسها دولة الاحتِلال في القِطاع حاليًّا.. والأيّام بيننا.