الخصخصة والوجه القبيح
كتب / د. حامد رحيم
أصدرت اليابان تشريعا يلزم الحكومة ببيع حصتها والبالغة (53،4 %) في مترو طوكيو العملاق لمدة أقصاها 2028، وتقدر قيمته السوقية بأكثر من (9) مليارات دولار ويساهم بنقل اكثر من (7،5) مليون مواطن يومياً. وتتميز التجربة اليابانية في مجال الخصخصة بالريادة خاصة في بواكير نهضتها بعد الحرب، اذ أقدمت على سياسة اقتصادية في هذا المجال تقوم على انشاء مشاريع اقتصادية إنتاجية،
وبعد نجاحها في السوق تباشر الحكومة طرح أسهم تلك المشاريع في سوق الأوراق المالية، لغرض بيعها إلى الجمهور وتحويل ملكيتها إلى القطاع الخاص وانتهت النتائج إلى ما عليه اليابان اليوم من تطور اقتصادي كبير جدا.
الخصخصة مبدأ اقتصادي يستند إلى معطيات تنموية بما تمثله من تحول إلى المنافسة الحرة، التي تقود حسب النظرية الليبرالية إلى الكفاءة في استخدام الموارد، وتقديم الحكومة بدورها الاقتصادي الرشيق، الذي يبتعد عن ملكية المشاريع الإنتاجية لفسح المجال أمام القطاع الخاص، ليمارس دوره القيادي لضمان التطور المطرد في الجوانب الإدارية والإنتاجية والتكنولوجية، وما يترتب على تلك الكفاءة من معالجات لمحاور اقتصادية مهمة، كالفقر والبطالة وتنوع الإنتاج وغيرها.
وقد أثبتت التجارب في هذا المجال حقيقة هذه المعطيات في الدول النامية حديثا، مثل النمور الآسيوية وغيرها وفشلت في دول أخرى لعوامل تتعلق بالفساد والاضطرابات السياسية، وسوء التطبيق، بمعنى ان الخصخصة تحتاج عوامل ذاتية وأخرى موضوعية، لا بد من توافرها لصناعة النجاح في العملية، وهنا نقطة الفرق بين النجاح والفشل في التحول نحو الخصخصة.
تجربة العراق بعد عام التغيير السياسي امتازت بالفشل الاقتصادي الذريع، نتيجة للفساد المستشري وسوء الإدارة وعدم قدرة الدولة على إدارة مواردها في ظل الهشاشة وعدم انفاذ القانون، بالمقابل تصاعدت الدعوات نحو الخصخصة بداعي معالجة الفشل في المشاريع الإنتاجية المملوكة للحكومة وبالاستناد إلى مرتكزات غير منطقية عبر اخذ مفهوم الخصخصة كانه حل سحري سيغير واقع تلك المشاريع بمجرد نقل الملكية من القطاع العام إلى الخاص، دون الاخذ بنظر الاعتبار العوامل الذاتية والموضوعية، وهذه مغالطة كبيرة، فضعف الرقابة وتفشي الفساد والمال السائب وغيرها من العوامل، التي انتجت ضياعا لفرص اقتصادية كبيرة، كان من المؤمل ان تنقل واقع الاقتصاد نحو الامام مثل إيرادات الموازنة العامة التي ناهزت اكثر من (1500) مليار دولار، دون ان تقدم منجزاً تنموياً واحداً فقط للشعب العراقي، بالإضافة للتجاوزات والتزوير الذي طال أملاك الدولة، حسب تقارير هيئة النزاهة العراقية والفشل الذريع في السيطرة على منافذ الدولة الحدودية وعدم القدرة على السيطرة على سعر الصرف في السوق الموازية، بسبب عمليات التهريب وغيرها من
النتائج.
إن المضي بسياسة الخصخصة المزعومة، سيقود حتما إلى قضية بالغة بالخطورة، فالعوامل السائدة حاليا ستنتج وجها قبيحا لها، باعتبار أن المال العام المنهوب من قبل القوى المتنفذة سياسيا والذي يعود إلى النشاط الاقتصادي تحت عنوان (غسيل أموال) مع القدرة الاحتكارية الكبيرة لتلك القوى، سيمكنها من الاستحواذ على ملكية تلك المشاريع الحكومية دون منافس، وبالتأكيد عند الاستحواذ على المشاريع الحكومية فلن تكون هناك رقابة على عمل تلك المشاريع، ولا ضمان لعملها بشكل كفوء، كون القوى التي تهيمن عليها هي ذات المهيمنة على الحالة السياسية، وهنا نقطة الارتباط بين الهيمنة السياسية للقوى الفاسدة والهيمنة الاقتصادية لها، كما حصل في التجربة اللبنانية، فنجد الموانئ مثلا تحت سيطرة قوى معينة والكهرباء بيد قوى أخرى، وغيرها من معطيات التجربة اللبنانية، والذي جعلها في دوامة مستمرة من الفشل السياسي والاقتصادي، ويبدو أن السيناريو ذاته سيتحقق في العراق في ظل الخصخصة المزعومة، وما تسويقها إلا مجرد إدعاء لا أساس تنمويا
له.
لذلك لا بد من إيقاف تلك الدعوات وإيجاد وعي جمعي لرفض التحول نحو الخصخصة في ظل الظروف الحالية والحفاظ على ملكية الدولة للمشاريع الإنتاجية، وان كانت متوقفة، فالجمود أهون من السيناريو المذكور انفا فالعاجز عن حماية أملاك الدولة من التزوير والاستحواذ لن يضمن تحقيق الانتقال نحو الخصخصة بشكل سليم.