جنوب الليطاني.. “حزام أمني جديد”: لإنتداب دولي… أم لتغيير ديموغرافي؟…
كتب / العميد محمد الحسيني
يتحدثون عنه وفي عجيجه لا يبالِ، يقتطعون به مساحة من الوطن وفي جريانه أطول من حبائل مكرهم، يُهددون به ناسَه وفي تدفقه هدار لا يخشى الوعيد، يسري وأعينهم شاخصة عليه…لطالما تصدر الأعلام بكل ألوانها، فغازلته الديبلوماسية العالمية، وحطت برِحَله الجيوش الأجنبيّة، مِعلَم طبيعي يطوي المسافات من بعلبك إلى البحر شمال صور، بعد أن ينحرف عرضياً في “الخردليي”، حتى غدت جغرافيا تاريخه في جبل عامل “جنوب النهر” و “شمال النهر”… إنه “الليطاني”، عقدة العدو الإسرائيلي ولعنته الدائمة، وعلى لسان مسؤوليه كلما ضافت بهم السُبُل…
منذ اندلاع الحرب على الحدود الجنوبية في 8 اكتوبر العام 2023، وكلما ارتفع مؤشر الخسائر لدى العدوعلى الحدود الشمالية لفلسطين، وازداد الضغط الداخلي على حكومته فيما خص مستوطني الشمال، يُصعّد من وتيرة إعتداءاته على لبنان، مهدداً بأمرين: فرض حل ديبلوماسي على قياسه بالقوة أواللجوء إلى الخيار العسكري البري بالقوة أيضاً.. وفي كلتا الحالتين المطلب واحد: “إقامة منطقة عازلة على طول حدوده مع لبنان، تمتّد في العمق الى نهر الليطاني، بهدف فرض نظام أمني جديد”…
والكلام عن نهر الليطاني جنوبه وشماله يمتد زمنياً لأكثر من قرن، فمنذ بداية الغزو الصهيونيي لفلسطين فرضت الأطماع “التاريخية والتوراتية” للعدو نفسها على نهج ومستوى الصراع مع لبنان، في الوقت الذي يزعم فيه العدو أن لا أطماع له فيه إلا فيما يقتصرعلى أمنه، تأتي مزاعمه هذه في نطاق الأطماع بحد ذاتها والإنتقاص من السيادة الوطنية، إضافة إلى أن مفهوم الأمن للعدو”حمّال أوجه”، أوضحَهُ ما أعلنته وزيرة الخارجية الأميركية السابقة “كوندوليزا رايس” من تل أبيب خلال العدوان الصهيوني على لبنان في تموز 2006: “إنّ حرب لبنان هي آلام الولادة القاسية للشرق الأوسط الجديد”… وإذا ما استندنا إلى قاموس “لغة العم سام” لا يوجد لها سوى تفسير واحد: “إنتزاع المقاومة وبيئتها بالقوة من أرضهم”، مما فُسر في حينها تغييراً “ً ديموغرافياً” للجنوب اللبناني بذريعة إنشاء نظام أمني يخدم الأطماع الصهيونية، ليعود النقاش إليه اليوم وعن نوايا العدو المبيتة لإحياء مشروع ” الحزام الأمني” من جديد،، في وقت قد فشل في تنفيذه خلال حرب تموز العام 2006، وفشل في تطبيقه على مدى عقدين ويزيد من إحتلاله لمنطقة جنوب الليطاني حينما اجتاحها في شهر مارس من العام 1987 باستثناء مدينة صور، ومن ثم إستكمل اجتياحه في العام 1982, ليصل إلى العاصمة بيروت بعمق 105 كلم عن الحدود، فارضاً بعد انسحابه الجزئي في العام 1985 على جنوب النهر “منطقة أمنية”، هذه المنطقة التي احتلها مدة 23 سنة حتى اندحاره في العام 2000، حاول أثناءها تغييرها “ديموغرافياً” من خلال:
نشر الرعب والفوضى عبر تشريد الآلاف من سكان الحدود الجنوبية، وتنفيذ إعدامات من دون سبب حين إفتعل مجزرة بالاشتراك مع ميليشيا العميل “سعد حداد” في بلدة الخيام ذهب ضحيتها 72 مسناً وذلك في 18 مارس العام 1978، والترهيب من خلال احتجاز المئات من اللبنانيين لأيام في العراء كما حصل في كثير من البلدات والقرى…
عمليات التطهير العرقي عبر تهجير بلدات بكاملها، مثل الخيام فقد أضحت خرابا بعدما طُرد سكانها بالقوة بُعيد المجزرة. كذلك بنت جبيل لم يبق منها سوى 400 نسمة، إضافة إلى تدمير المنازل في الكثير من القرى وترحيل سكانها، ومحو البعض منها كاملة، كما حصل بقرية حانين في العام 1976.
سرقة ونهب للآثار الوطنية، بالإضافة إلى المنازل في البلدات الجنوبية من قبل العدو وميليشياته، حيث مارسوا طريقة نهب تعطي انطباعاً بأن العودة شبه مستحيلة، فقد كانوا يسرقون مفروشات المنزل، من ثم يعمدون إلى فك محتوياته من أبواب ونوافذ…، وفي مرحلة أخيرة يهدمونه وينهبون الحديد…
إثارة النعرات الطائفية عبر فرض سيطرة الأقلية المسيحية على الأغلبية المسلمة.
محاولات “تطبيع” سكان “الحزام الأمني” عبر اقتطاعه لمنطقة جنوب الليطاني عن الدولة اللبنانية بإنشائه “دولة لبنان الحر” أولاً ومحاولة فرض هوية الدولة الجديدة، ثم “الإدارة المدنية” لاحقا، والتجنيد الإلزامي في “جيش العملاء”، والإعتقالات، وتفريق العائلات وإغراءات العمل في فلسطين المحتلة إلخ…
كل هذا وهناك رؤية للبعض تتبنى تصريحات مسؤولي الصهاينه بأنّ أطماعهم في لبنان تقتصر فقط على تأمين حدودهم الشمالية، والوثائق “التاريخية والتوراتية” للأطماع الصهيونية في لبنان لا تعد ولا تحصى منها:
خلال مؤتمر باريس للسلام في العام 1919 قدم الوفد الصهوني مذكرة باتفاقية “فيصل-وايزمان” مرفقة بخريطة للكيان الموعود تشمل لبنان الجنوبي باستثناء مدينة صيدا وجزء من البقاع الغربي.
تصريح “دافيد بن غوريون” في العام 1944: إنّ خريطة فلسطين الحالية إنما هي خريطة الإنتداب، وللشعب اليهودي خريطة أخرى، يجب على شباب اليهود أن يحققوها وهي خريطة التوراة التي جاء فيها: “وهبتك يا اسرائيل ما بين الدجلة والنيل”.
خلال “مؤتمر لوزان” وجّه رئيس الوفد اللبناني الوزير السابق “فؤاد عمون” مذكرة الى وزارة الخارجية اللبنانية مفادها: “أن الوفد الصهيوني طالب بضم الأراضي اللبنانية الواقعة جنوب الليطاني إلى الكيان الغاصب, باعتبار أنها ضرورية لمخططه التنموي، مقابل عودة محدودة للاجئين الفلسطينيين”، هذا المؤتمر الذي عُقد من قبل لجنة التوفيق بشأن فلسطين التابعة للأمم المتحدة (UNCCP) في العام 1949 في مدينة “لوزان”. حضرته بلدان مصر والأردن ولبنان وسوريا، والكيان الصهيوني لحل النزاعات الناشئة عن حرب 1948، وقعَ المجتمعون فيه على “بروتوكول” يقضي باحترام اليهود للحدود وفق القرار 181، وتدويل القدس، وعودة اللاجئين، وبمجرد قبول الأمم المتحدة عضوية العدو الصهيوني، تراجع عنه.
وثيقة/خطة بالغة الخطورة أُطلق عليها إسم الخطة الاستراتيجية للجيش العدو لعامي 1956-1957 أوضحت: “أن الهدف الإقليمي الأدنى لإسرائيل هو احتلال المناطق المجاورة لقناة السويس ونهر الليطاني والخليج الفارسي لأنها تنطوي على أهمية حيوية. وفي تقريرآخر للعدو: لقد اعتبر الصهاينة أرض إسرائيل المعلنة تلك الممتدة من الليطاني وحتى سيناء ومن الجولان حتى البحر.
الأسباب الرئيسة لاحتلال الكيان الغاصب العام 1967 لأراضي (الضفّة الغربيّة ومُرتفعات الجولان وتلال كفرشوبا ومزارع شبعا) والإحتفاظ بها والرغبة الصهيونية في الإشراف الدائم على مصادر المياه المجاورة، سواء أكانت أنهارًا أم ينابيع أم آبارًا جوفيّة، تعود إلى عقيدة “الأرض والماء” لمؤسس الحركة الصهيونية، تيودور هيرتسل 1860-1904.
الفكروالأيدولوجيا لدى بعض الأحزاب اليمينية المتطرفة تتبنى ما يسمى “إسرائيل الكبرى”، بما فيهم حزب الليكود ذو التوجه اليميني الليبرالي.
تشير الآيات الموجودة في سفر التكوين 15: 18 , سفر التكوين 18: 15- 21، سفر التثنية 11:24، سفر التثنية 1: 7، سر العدد 34: 1-15 أو سفر حزقيال 47: 13– 20. بوضوح الى “إسرائيل الكبرى” والتي يؤمن بها معظم اليهود اليوم، ومنها: “فِي ذلِكَ الْيَوْمِ قَطَعَ الرَّبُّ مَعَ أَبْرَامَ مِيثَاقًا قَائِلًا: «لِنَسْلِكَ أُعْطِي هذِهِ الأَرْضَ، مِنْ نَهْرِ مِصْرَ إِلَى النَّهْرِ الْكَبِيرِ، نَهْرِ الْفُرَاتِ.” (تك 15: 18).
إذا كانت (استناداً لمزاعمهم) العبارة هذه والتي تعود لآلاف السنين، قد اعتبروها “صك ملكية” لهم في فلسطين، ليغتصبوها بالأمس القريب، فكيف يقرأون بلغة اليوم عبارتهم التالية؟ : “كُلُّ مَكَانٍ تَدُوسُهُ بُطُونُ أَقْدَامِكُمْ يَكُونُ لَكُمْ. مِنَ الْبَرِّيَّةِ وَلُبْنَانَ. مِنَ النَّهْرِ، نَهْرِ الْفُرَاتِ، إِلَى الْبَحْرِ الْغَرْبِيِّ يَكُونُ تُخْمُكُمْ” (تث 24:11)
فهل سيكتفي “بتُخوم” جنوب الليطاني حزامأً أمنياً له…؟ أم سيطالب لاحقاً بشمال النهرفي إطار”1701 بحلة جديدة”، تمهيداً لإخضاع جنوب لبنان كله لما يشبه الإنتداب الدولي؟ في وقت لا تزال حملة “نيجر” إبان الإنتداب الفرنسي (1920) ماثلة في الذاكرة الجماعية الجنوبية… أم هل سيُقدم على زج جيشه المُنهك بحجة الحزام الأمني لتنفيذ حلم “التغيير الديمغرافي” في إطار”صك البيع” التوراتي للبنان؟…