نحن واليابان والتربية والتعليم
كتب / الدكتور صالح الطائي
لا عيب أن نتعلم من الآخرين، لنبدأ من حيث انتهوا، ونفيد من تجاربهم الغنية لنتجنب الإخفاق الذي وقعوا فيه في مراحل ما قبل النجاح، بعد أن نسينا ما علمه لنا أسلافنا، ووعوه هم وتعلموه بعد أن اقتبسوه منا، فالمثاقفة والتناقل الثقافي سمة الحياة البشرية في كل حين، ولا يكفي أن يكون أجدادنا عظماء، بل يجب أن نتعلم صنع العظمة ونمارسها.
وما أريد التحدث عنه على عجالة هو موضوع ونظام التعليم الابتدائي في العراق مقارنة بنظام التعليم الياباني، بسبب الإخفاقات الكبيرة التي شخصها المتخصصون في نظامنا، والتي تدفع الطلاب إلى كره التعلم، والتغيب المستمر، والتسرب من الدراسة وتركها، واعتماد أساليب الغش في الامتحان، ودفع الرشاوى من أجل النجاح، وأخيرا وليس آخراً قلة المبدعين، وقليل الموهوبين، بعد أن أصبحت الغاية من التعلم هي الحصول على وثيقة تتيح للطالب الحصول على وظيفة في إحدى الدوائر الرسمية لا أكثر، وبدون أي طموح أبعد من ذلك.!
ففي الوقت الذي يوجب النظام التعليمي العراقي خضوع الطالب للامتحان من الصف الأول الابتدائي، نجد نظام التعليم في اليابان يمتنع عن اجراء أي امتحان مهما كان نوعه للطلاب من الصف الأول إلى الرابع الابتدائي، لأنها مرحلة الإعداد المركزية التي تبنى وتقام عليها جميع المراحل التعليمية والحياتية الأخرى، فهم يعتقدون أن في هذه المرحلة التعليمية الحساسة هناك عشرات الدروس الأخرى التي هي أكثر أهمية من الامتحان؛ والتي يجب على الطالب تعلمها ابتداء، والتعود عليها بشكل مستمر، ليسهم في بناء نفسه وثقافته ومن ثم بناء المجتمع، والإسهام في تقدم وتطور البلد. من هنا نجدهم يقصرون تعليم الطلاب في هذه المرحلة الابتدائية والأساسية على أساسيات الحياة المعاصرة والنظام المجتمعي، فهم يعطون الأولوية لتعليم الطالب احترام السلوك والأخلاق، واحترام الناس الآخرين دون اعتبار لوضعهم المالي أو الوظيفي أو السلطوي، فالجميع متساوون في نظر الجميع، لا فرق بين عربي وأعجمي إلا بالتقوى، في وقت تخلينا نحن، وتخلت مناهجنا التعليمية عن هذه الجزئية المهمة في الحياة.
وهم يسعون إلى تعليم الطالب أهمية استقلال الذات بالشكل الأمثل، وتعويده على تحمل المسؤولية الفردية والمجتمعية، وإشعاره بأهمية العمل المشترك، ومن ثم تعليمه القدرة على ممارسة العمل المشترك ضمن الفريق، لتعليم الطلاب بشكل عام أهمية تقديس العمل مهما كان نوعه. ومن تجاربهم العملية التي تمارس باستمرار في جميع مدارسهم؛ تعليم الطلاب على المشاركة الجمعية رفقة الأساتذة لتنظيف المدرسة وجميع مرافقها يوميا، فالطلاب العراقيين الذين لا يشعرون بأهمية هذه المشاركة وقدسيتها؛ كونها تسحق الروح الطبقية لدى بعضهم، يقابلها تقاسم طلبة اليابان في تحمل المسؤوليات بكل أنواعها، فهم يتولون مثلا القيام بجميع أعمال المنظفين، طالما أنهم هم الذين تسببوا في وجود تلك الفوضى وإن لم تكن مقصودة، قبالة ذلك تشكو المدارس العراقية من قلة عدد عمال الخدمات والمنظفين، لا بسبب عدم التزام الطلاب بأبجديات النظافة فحسب، بل واحتقارهم لهذا العمل ولمن يقوم به وفق رؤية طبقية مقيتة، في وقت لا تجد فيه وظيفة عامل نظافة في مدارس اليابان لأن طلابها هم من يتولى هذه المهمة.
وفي الوقت الذي يسهم فيه بعض طلاب المدارس الابتدائية العراقية في تلويث البيئة، وتحطيم الأشجار، وقطف الورود وسحقها، وإلقاء القمامة ولاسيما المخلفات البلاستيكية في كل مكان، تجد نظام التعليم الياباني يسعى إلى تعليم الطلاب أهمية تقدير البيئة وحفظها والحفاظ عليها والعناية بها لتبقى سليمة جميلة مشرقة.
وفي الوقت الذي يعتبر فيه نظام التعليم العراقي درجة الامتحان بكل أنواعه اليومي والأسبوعي والشهري والفصلي والسنوي هي الفاصل بين نجاح ورسوب الطالب الابتدائي، يسعى نظام التعليم الياباني إلى متابعة مهمة أن يتخصص التعليم في هذه المرحلة في تنمية قدرات المعرفة العامة النظرية والعملية والسلوكية والمجتمعية لدى الطالب، لا من أجل تحصيل الدرجات مثلما هو عندنا.
وفي الوقت الذي تعم فيه الفوضى مدارسنا وبشكل خال من أي وجه من أوجه التحضر والرقي والذوق، يؤكد نظام التعليم الياباني وباستمرار على وجوب التزام الطالب بالأدب والانضباط، وتقدير الوقت، والحفاظ على الموعد، والالتزام بأوقات الدوام والعمل، وبسبب هذا النظام نجد معدلات الحضور في المدارس اليابانية تقترب من النسبة المطلقة 100% في وقت تتراوح نسب الغياب في مدارسنا الابتدائية بين 10 إلى 25 بالمائة وتتجاوز هذه النسبة في بعض الأحيان.
وفي الواقع، بل الذي يحز في النفس كثيرا أننا أجدر من غيرنا باتباع تعاليم ديننا ومجتمعنا التي تدعو إلى الاهتمام بالصغار وفق قاعدة السلف “خذوهم صغارا” المستقاة من قول رسول الله ﷺ: “التعلم في الصغر كالنقش على الحجر”، فالتعليم في الصغر ممارسة عملية، وتمرين تقوية، وتهذيب سلوكي بنائي، وإسهام جاد في وضع أسس النشأة وفق مقاسات العلم والدين والإنسانية، وهي عملية معقدة تحتاج إلى الاهتمام الكبير بجميع أركانها العملية؛ ابتداء بـ”المربى” الذي يكون في هذه المرحلة ورقة بيضاء تنتظر الأقلام لتخط وتطبع عليها ما تشاء، مرورا بـ”المربي” الذي يجب اعداده إعدادا علميا وسلوكيا ومهنيا تحت رقابة صارمة، وصولا إلى “المنهج المقرر” الذي ليس شرطا أن يكون كتابا، فهو قد يكون دروسا نظرية واستطلاعية ومشاهدات حياتية وقصص
إن المنعطفات الحياتية الخطيرة التي يمر بها العالم اليوم، والتهديدات المباشرة لعالمنا العربي والإسلامي، تعتبر مسألة مصيرية حاسمة، تتطلب منا جميعا الإسهام في وضع مناهج التحصين المجتمعي وفق كل المتاحات ومنها إعادة بناء منظومات التعليم في جميع مراحله ولاسيما الابتدائية منها وفق سياقات التحضر والتمدن والمعاصرة، بعيدا عن التقليدية الموروثة بكل سلبياتها وتأخرها، فالتربية بوصفها سلوك تهذيبي يسعى وراء تحسين القدرات والتحصين من الخطأ لا تقف عند مستوى التعليم المنهجي وحده، ولا يكفي الطالب أن يتعلم القراءة والكتابة وحدهما، ولا أن يتحصل على درجات عالية في الامتحانات، طالما أن اللعب مثلا حق طبيعي نشأوي وتربوي في مرحلة الطفولة، وطالما أن التربية الأخلاقية هي التي تؤسس لباقي المراحل المهمة، وعلى الدوائر المتخصصة أن تراعي هذه الملاحظات وتعمل بموجبها من أجل غد مشرق، ليس مستحيلا أن نصله إذا صفت النوايا وأخلص المسؤول.