الاحتلال الثقافي في المجتمع العراقي
كتب / د. يحيى حسين زامل
يُقصد بالإحلال الثقافي أنه العملية التي يتم فيها إحلال عنصر ثقافي محل عنصر ثقافي آخر، سواء أكان هذا الإحلال كليًا أم جزئيًا، والإحلال الثقافي عملية تتعلق بالتغيير الثقافي.
وفي تحليل التغيير ينصب الاهتمام عادة على الطريقة التي رتبت بها العناصر الجديدة أكثر من انصبابه على بحث العلاقات بين العناصر القديمة والجديدة، وتتركز هذه العملية على ثلاثة موضوعات هي : التجديد أو الاختراع أو الانتشار.
ولقد تناولت “الأنثروبولوجيا الثقافية” جملة من الموضوعات المركبة، التي تدخل في صوغ الثقافة الكلية والشاملة في المجتمعات المختلفة، وفي المجتمع العراقي يمكن لمس العديد من الموضوعات المركبة، التي تناولتها البحوث والدراسات بوصفها دراسات إثنوغرافية/ ميدانية تخضع للاختبار والتحليل والتفسير في سياقات اجتماعية وتاريخية وثقافية مختلفة.
ويصور الأنثروبولوجيون عملية الإحلال عن طريق “التمثيل” و”الاسقاط”، بمعنى أن الجماعة الإنسانية فيه يجب أن تمثل وتهضم كل عنصر ثقافي جديد، وقد تسقط هذه الجماعة بعض العناصر الثقافية، ومن هنا نجد أن كل من الاسقاط والتمثيل يؤدي إلى الإحلال الثقافي.
وفي وجود هذه الأمثلة في الثقافة والمجتمع العراقي سابقا حين دخلت الكهرباء إلى العراق، وخاصة في مدينة بغداد عام 1917، وكان ذلك مع دخول الإنكليز إلى العراق، وعندها تمت إحالة مصابيح الزيت بمصابيح الكهرباء، وقد ظن سكان بغداد أن هذه المصابيح تحمل جنًا من العالم الآخر داخلها، وقد تمت وقتها إنارة شارع الرشيد والسراي والقشلة وشريعة المجيدية والمستشفى في باب المعظم، ثم توسعت لمكانات أخرى في سنوات لاحقة.
وقد دخلت بعدها بسنوات وسائل وأدوات تكنولوجية عدَّة في المجتمع، مثل: الراديو والتلفزيون والهاتف الارضي والساعات في مراحل مختلفة من عمر المجتمع، وقد استعمل المجتمع تلك الأدوات الثقافية في حياتهم وشكلت لهم تمثلات ثقافية وتاريخية وذكريات وحكايات تتسق مع سياقات مكانية وزمانية متعددة، وارتبطت تلك الأدوات بسرديات المجتمع، وأصبح يوم دخولها مثلا للمجتمع وتاريخ ثقافي لا يمكن نسيانه، وارتبطت بأمكنة (مؤسسات ومقاه وساحات وبيوت)، لها حضورها الاجتماعي والثقافي والسياسي، وشخصيات ورجالات دينية واجتماعية ورياضية وفنية وأدبية، من خلال عرضهم ونقل صورهم من المصدر إلى المتلقي كاتصال جماهيري، أو اتصال بين شخصين كما في الاتصال في التليفون المنزلي.
ولكن كل هذه الأدوات (العناصر الثقافية) أسُقطت بشكل متتال، بسبب اختراع تكنولوجيا الاتصال الجديدة وانتشارها، ودخول جهاز الاتصال المحمول (الموبايل)، الذي أزاح بكل قوة تلك الأجهزة القديمة، وجعلها مجرد ذكريات وخردة ينظر لها كماض لا يمكن الرجوع إليه، وهذه الإطاحة بكل تلك العناصر السابقة كان له الأثر الكبير في بنية المجتمع وانساقه ونظمه وحركته التاريخية.
وكل تلك الأجهزة/العناصر (الراديو التلفون التلفزيون) قد جمعت في جهاز واحد اختصر الزمان والمكان، حتى أطلق بعضهم عليه لقب “القاتل”، فقد قتل وازاح الكثير من الأجهزة المختلفة التي ذكرت، بالإضافة إلى احتوائه على ساعة ودفتر ملاحظات وكاميرا ولوحة رسم وصفحات تواصل اجتماعي تستطيع من خلالها الاتصال من بيتك باخر نقطة في العالم بالصوت والصورة، وبإمكانك أن تحوله إلى محطة تلفازيه أو إذاعية تبث فيها ما تريد، وازاح الهاتف المحمول ايضا الكتاب والمجلة والصحف بشكل مريع، وتحولت تلك الوسائل إلى إلكترونية يمكن قراءة محتواها بدون طباعة وحبر وورق.
إن هذه الاختراعات والاكتشافات قد غيرت وجه التاريخ، وجعلت من مجتمعات منقطعة وساكنة، إلى مجتمعات متفاعلة وحركية تتسابق فيما بينها في العلوم والآداب والأفكار والحركات السياسية والاجتماعية والاقتصادية المختلفة، ولاشك أن هذه العملية التي أنجزت كانت بحق تمثيلًا مهمًا للاحلال الثقافي بكل تمثلاته وتطبيقاته، وتجديدًا للمركبات والعناصر الثقافية.