شيءٌ عن السلطة القادمة
كتب / أ. د عامر حسن فياض
السلطات عرفناها ثلاث هي التشريعية والتنفيذية والقضائية، كما عرفنا سلطة رابعة هي سلطة الاتصال بأدواته (الصحافة أولا)، ثم الاذاعة والتلفزيون و(شبكات التواصل الاجتماعي اخيراً) والسلطة الرابعة بأدواتها الأولى والأخيرة كانت ولا تزال تسجل حضورها المؤثر والمتأثر في السلطات الثلاث، التي سبقتها تقليدياً غير أن السلطة الخامسة، التي ستأتي سواء عرفناها أم لم تعرفها بعد هي سلطة المعرفة، والتي تفرض- أو ينبغي أن تفرض تأثيرها، دون أن تتأثر على كل السلطات شئنا أم أبينا.
لقد نشر المفكر الانجليزي (توماس هوبز 1588- 1679م) وقبيل الثورة الصناعية كتابه الشهير (الليفياثان 1651)، الذي استمد عنوانه من اسم وحش بحري اسطوري قوي، واستخدمه في هذا الكتاب للاشارة إلى الدولة ذات السلطة القوية، المراد تحقيقها في القرن السابع عشر الذي جرت العادة على وصفه بقرن السلطة.
ولكن العالم يدخل اليوم عصر ثورته الكبرى الثالثة (ثورة المعلوماتية والاتصال)، مخلفا وراءه ثورتين سابقتين كبريتين الاولى (الثورة الزراعية) والثانية (الثورة الصناعية)، وتتمثل العلامات القارقة للثورة الثالثة في تحولات كبيرة في شتى ضروب الحياة المجتمعية (السياسية – الاقتصادية – الاجتماعية والثقافية).
وقدم المفكر الاستراتيجي الامريكي (ألفن توفلر 1928-2016م) في ثلاثيته (صدمة المستقبل، الموجة الثالثة، تحول السلطة) وتحديداً في الجزء الثالث (تحول السلطة) أطروحة فكرية جديدة عن انعكاس تلك التحولات على السلطة السياسية، وأثرها ليس فقط في جعل المعرفة مصدر لهذه السلطة، بل وجعل المعرفة ايضا مصدراً للمصدرين القديمين للسلطة (القوة والثروة) ولتحسنهما وزيادتهما، بل ثمة ثورة معرفية تجتاح عالم مابعد العالم.
وان المفكر الانجليزي (فرانسيس بيكون 1561 – 1626م) صاحب المقولة الشهيرة (المعرفة قوة) وليس بوسع اي عبقري في السابق مثل الصيني (سن تسو) ولا الايطالي (نقولا ميكيافيللي)، ولا حتى (بيكون) نفسه أن يتخيل ما تشهده هذه الأيام من تحول عميق في طبيعة السلطة ومصدريها (القوة والثروة) اللتين باتتا تعتمدان بشكل كبير وأساس على المعرفة.
ولعل الجديد في الامر، هو أن المعرفة ذاتها لم تعد هي المصدر الوحيد للسلطة، فحسب بل وأصبحت ايضا أهم مقومات المصدرين القديمين للسلطة (القوة والثروة).
وعلى هذا الاساس يمكن ان نفهم لماذا تدور المعركة الآن في أرجاء عالمنا المعاصر للتحكم في المعرفة ووسائل الاتصال.
فمنذ عقد التسعينيات من القرن الماضي، شهد العالم ثلاثة متغيرات قلبت اشكال وجوهر المنظومة الفكرية التقليدية وهي ثورة المعلومات والاتصالات وسقوط الشمولية السياسية والتدويل المضطرد للعالم
(العولمة).
وقد تسببت هذه المتغيرات في نشوء ظواهر سياسية واجتماعية محتملة ذات أثر كبير في تشكيل منظومة الفكر السياسي المعاصر، ابرزها ظواهر حوار الثقافات والثقافة العالمية وحرب المعلومات والتحولات الاقتصادية والنوستولوجيا التي تعني التوق غير السوي للماضي، بسبب عدم تكييف الذات الفردية ولا الجماعية مع المستجدات والمتغيرات أو باختصار محاولة استعادة ماض يتعذر استعادته، وهو ما يجعل من النوستولوجيا شكلاً من أشكال الحنين إلى الماضي ونوعا من الاغتراب عن العصر ومستجداته، وهي ظاهرة ليست فردية تخص شاعراً رومانسيا مثلا ، بل ظاهرة جماعية تخص جماعات أو أمم.. وهي المفهوم الذي تستبطنه مفردات متعددة مثل الرجوع والعودة والانبعاث والأحياء والالتفات إلى ما كان والنهوض بعد الموت... الخ.
والنستولوجيا سياسياً إشارة إلى العجز عن التكييف مع مستجدات العصر وعدم استيعابها من ناحية، ورفض هذه المستجدات من ناحية أخرى، والاقتناع بان سبب رفض هذه المستجدات، أنها لن تؤدي إلى تحقيق التطلعات والتوقعات، وقد يدخل العنف هنا في الموضوع ففي بداية الثورة الصناعية في انجلترا واوروبا الغربية، عبر العمال الذين شردتهم الآلة عن غضبهم عليها بتدميرها بسلوك عدواني عنيف، نتلمس منه وفيه حالة نوستولوجية يحركها عاملان: عامل الحنين إلى الماضي والخوف من الحاضر واليأس من المستقبل، وعامل العجز عن التكييف مع المستجدات، وعدم امتلاك حلول عقلانية للمشكلات المترتبة على هيمنة الآلة، فلم يبق أمام العمال، إلا سلوك يائس أخير، وهو تحطيم الآلة ذاتها.
ونشهد اليوم السلوك ذاته في زوايا وأطراف المسرح العالمي كلها دون استثناء يذكر مثل معاداة الاجانب والمهاجرين في أوروبا وأمريكا والحركات السياسية المتطرفة في الشرق والغرب على السواء.
وبقدر تعلق الامر بسلطة المعرفة القادمة فان من يمتلك المعلومة في عالمنا المعاصر، يكون سيداً سياسيا واقتصاديا وكذلك عسكريا لان من يمتلك المعلومة يستطيع ان يمتلك الثروة ومن يمتلك الثروة يسيطر على كل شيء بما في ذلك السلطة السياسية، وكذلك من يمتلك المعلومة يستطيع أن يشكل العقول، ومن يشكل العقول يستطيع ان يحدد ويوجه السلوك ومن يفعل ذلك يصبح صاحب القوة فالسلطة والسلطان.
ويعني ما تقدم كله ان عالمنا المقبل يقوم على تقسيم جديد غير قائم على أسس ايديولوجية ولا سياسية ولا اقتصادية كمية، بل قائم على أسس معرفية استناداً إلى معادلة من يعلم ومن لا يعلم وهو عالم سيخضع فيه من لا يعلم لمن يعلم ومن لا يعلم سيكون تابعاً ومرتهناً، مصيره الراهن ومستقبلة القادم بمن يعلم.
بعد كل ذلك أردنا القول إن المعرفة مستقبل، وأن سلطة المستقبل هي سلطة المعرفة ومن غير المجدي أن نحارب المستقبل بماض أو بحاضر، بل علينا مواجهة المستقبل بمساهمة في المستقبل عندها يكون مستقبلنا متسلحاً بأخلاق في مواجهة مستقبل بلا أخلاق.
فالسلطة القادمة هي واحدة من اثنتين أما سلطة معرفة خلوقة أو سلطة معرفة غير خلوقة.