عاصمة المقاومة والجيل الرابع من سرقة الانسان!
كتب / خالد شــحام
قررت قبل شهور غير قليلة تنحية بصري عن مشاهدة تلك الصور التكتونية التي تفيض بها الأخبار والتقارير الإخبارية من حال غزة ، تلك الصور التي تعرفونها جيدا حيث يتراءى لك أن شيئا من حياتك ينسحب من عروقك ويذهب مع هذه الصور عند لمحها ، لا اعلم كيف فكرت بذلك ولكن ربما لأن هذه الأرواح تتحول إلى دبابيس مغروسة في مقدمة الدماغ وتكون كفيلة بإطفاء كل شموعك الداخلية ، تأكدت سريعا بأن هذا القرار خاطىء جدا ويتحول إلى جزء من مهمة مساعدة العدو في محو سجل جرائمه داخل الذاكرة الفردية ، وتحييد أنفسنا مما يعانيه أهلنا في الألم .
ما زال جيش المجرمين والمخربين يذهلنا كل يوم بمفاجآت ثقيلة حول مدى انحطاطه ووساخة مستواه ، بالأمس وقبل الأمس ومثل كل الأيام وفي القصف على خان يونس والنصيرات والمستشفيات والخيام ومدارس النازحين عرضت المواقع الإخبارية صورة جثامين الأطفال والنساء الممدة على أرض المشفى المحترق ، جثامين بأعمار 6-10 سنوات وتسأل الصورة بأي ذنب قتلت ؟ هذه الشابة الفلسطينية الجميلة ، كيف حولوا جسدها الطاهر إلى تجربة علمية أمريكية أو قربان لكائن بن زفيري أو سموتريتشي ؟ ما الذي يعتقده هؤلاء المرتدون عن الإنسانية ؟ هل يظنون أن الأم الفلسطينية ستتوقف عن الحياة ؟ ما الذي يفترض بالموتى أن يفعلوه ليتمكن العالم من رؤية الإبادة الاسرائيلية بحق شعب فلسطين ؟ ماذا يعني حرق البيوت بالمساكين داخلها ؟ هل هو الاشتياق إلى الفرن الكبير ؟ هل ينبغي وضع أطفال غزة في فرن اسرائيلي ليفهم العالم بأن الجنــاة فعلوا أشد هولا مما يدعون على هتلر ؟ ما الفرق بين أفران الحرق في السردية السامية وبين مدن غزة وأحيائها ؟ أليست غزة بأكملها أضحت فرنا كبيرا للنازية الجديدة على يد هذه الوحوش الوضيعة ؟ أليست كل العروبة وأهل الأرض جميعا محشورون في الفرن الاسرائيلي بانتظار تدفق الغاز المسال في عروقه ليبدأوا احتفالية التطهير الثانية ؟ كيف يمكن للبشرية أن تمضي عن كل ذلك العذاب وما الذي ينتظرنا جميعا امام مسؤولية هذه الجرائم ؟
ضمن المنظور الأقرب هنالك أربع سنوات مسروقة من أعماركل واحد منا ، السرقة الكبرى بدأت مع مطلع العام 2020 وهو كما يبدو التوقيت المفضل في أجندة الجماعات السرية العظمى ، بدأت عملية السرقة الكبرى مع إطلاق لعبة كورونا والاستيلاء على الحرية الإنسانية ووضعها في قفص من نوع خاص مبتكر في تجربة جريئة المقاس ، ثم توالت أجندات السرقة بعد ذلك حتى وصلنا اليوم إلى محرقة غزة المفتوحة ، كيف تحدث السرقات الكبرى للزمان والإنسان بعد المكان ؟ وهل الزمان والإنسان قابلان للسرقة أصلا ؟
نعم سادتي ، تحدث السرقات الكبرى عندما تتجاوز السرقة حدود السرقة الكلاسيكية للجماد وتذهب لسرقة القيمة الادمية حيث تستورد سعادة البشرية ويتم الزج بها في أتون حروب طاحنة متواصلة والاستيلاء على حياة الإنسان أو دفعها لتكون في اتجاه المكابدة المعيشية والتحول إلى حقبة الاستعباد أو قصة من قصص العيش في البراري والافتراس وسط آفاق مجهولة ، يحدث مثل ذلك عندما تأكل وتشرب وتروح وتجيء ولكنك تشعر بغمة هائلة وغمامة تحيط بك وبكل من حولك دون أن تفهم ماذا يحصل ، تحدث السرقات الكبرى بعد الشبع والملل من السرقات الصغرى ، والسرقات الصغرى عادة تكون بالاستيلاء على الأرض والثروات واحتلال جغرافيا محددة وعنوانها الكبير هو النهب ، تماما كما فعلت الولايات المتحدة بسرقة القارة الشمالية ، وكما فعلت بريطانيا عندما سرقت فلسطين ومنحتها للحلم الصهيوني ، في المرحلة الأعلى التالية من السرقات المتطورة لم يعد احتلال الأرض وسرقة ثرواتها هو الأساس بل أصبح عنوان السرقة هو سرقة التاريخ بمعية سرقة إرادة الشعوب والافتراء عليها تجنيا وكذبا وتمزيقها حضاريا ، نفذت الولايات المتحدة ذلك بمعية بريطانيا عندما احتلت العراق تحديدا وسرقت التاريخ القديم والحاضر وسرقت حقوق شعب عربي بأكمله من حضارة وعلم وأدب وفكر وتراث ونسيج اجتماعي وهذه السرقة تفوق احتلال الأرض والاستيلاء عليها ، تطورت لعبة السرقة العقائدية في العقلية الرأسمالية الأمريكية عندما قررت إنتاج نسخة جديدة من السرقات الكبرى المتمثلة في عولمة الزمان والضحك عليه بإلباسه بنطال الجينز كستايل للحياة كلها وهي بذلك سرقت حقوق الهوية العالمية واعتدت على الملكية الثقافية لكل هذا العالم شرقه وغربه ، جاءت عقب ذلك نوعية اخرى من السرقات تسمى سرقة الفطرة البشرية التي حضرت بمعية فرض الانحلال والمثلية كنوع من التطبيع في أرجاء المعمورة .
اليوم في العدوان على غزة ، تعايشون بالتمام والكمال الجيل الرابع من تطور ظاهرة السرقات العظمى التي ستؤول إلى ضرب هذا العالم بأكمله وإصابته في مقتل ، بشـأن غزة يريد السيد عطا الله العبري افتتـاح أكبر عملية لسرقة الحياة والأمل والحلم ليس لسكان لغزة كما يظن البعض بل لكل شعوب العرب وكل شعوب العالم بما فيها الغربية ، إنها الرســالة الأولى الدموية بالجهرالمعلن للنظام العالمي الجديد بأنه أصبح (الإلهة ) الأرضية التي لها الصلاحية لمنح الإذن بالحيــاة أو الموت ، والآلهة الوحيدة التي لها الصلاحية المطلقة بالقتل والابادة دون أن يعترض أو يمانع أحد ، إنها سرقة هائلة الحجم تحمل في باطنها سرقة الرأي العالمي والاستيلاء على كل مشاعر وأصوات سكان الأرض وتحويلها إلى أشياء عديمة القيمة أمام السلطة الأمريكية ، قالوها مرات عديدة ورددها مسؤولون عبريون داخل وخارج فلسطين واكدوا أن سرقة فلسطين والمنطقة العربية لم تعد كافية بل يجب سرقة الأمل والحياة من شعب فلسطين وشعوب العرب .
في داخل المنطقة العربية تتميز السرقات الكبرى للإنسان والزمان بأنها سرقات مركبة هرمية الشكل ، بمعنى أن الأنظمة العربية التي قررت الاستيلاء على قيمة ومكانة ووعي الإنسان وتحويله إلى مسنن في ماكينة العبادة وحبسه داخل سجن التخلف والبداءة والقبيلة والامل الكاذب إلى الأبد ، أضافت إلى هذه السرقة أبعادا أخرى تتمثل في فتح البوابات للسرقة الأمريكية القادمة من خلف البحار للعبث بعقل الإنسان العربي و سرقته كاملا بأحلامه ومستقبله داخل جغرافية بلاده ، عندما تتأصل هذه السرقات نتحول جميعا إلى كائنات مجهرية تبحث عن السكر والخبز والزيت والسكن وأبسط الحقوق ، وتتخدر أعصاب الكرامة والحرية والنخوة لأن هذه المفاهيم تمت سرقتها .
في داخل فلسطين وقعت السرقة الأكثر تطورا باتفاقات أوسلو المشؤومة حيث تم منح النهب صكوك الغفران اللاهوتية السياسية وأوكلت لجماعة أوسلو مهمة سرقة مشروع التحرير الفلسطيني وحبس شعب بأكمله داخل الحلم الأمريكي المرعب الذي نراه يتجسد حيا في غزة .
إن الصورة المقرؤة بقراءات ما يحدث من الأزمات التي نعايشها في زماننا وارتباطا بسلسلة التاريخ الماضي تؤكد أن الولايات المتحدة قررت تنفيذ عملية السرقة الكبرى لهذا الزمان ولهذا العالم ، سرقة كبرى تتجاوز ما فعلته بالهنود الحمر والاستيلاء على وجودهم ومستقبلهم ، سرقة تتعدى الاحتلال الأرضي وسرقة منابع الطاقة والمعادن والفلزات النادرة والمياه والمساحات الخضراء لأن كل ذلك لم يعد كافيا لها ، سرقة تتعدى دس العولمة في بلعوم المجتمعات والشعوب وتدجينها وتغريب هويتها بالثقافة الغربية المنحلة والمتفككة اجتماعيا ، لقد قررت هذه القوة أن بإمكانها وضع يدها على كامل البشرية والإطباق على مصيرها ومستقبلها والتحكم التام في مسارها ، إفنائها او إحيائها أو تقليص أعدادها ، لقد كانت سلطة الكنيسة والملك في المجتمعات الغربية عبر القرون الماضية تمثل جذر الثورات الشعبية ضد هذا النفوذ الجائر في التاريخ الماضي ، لم تتمكن البشرية من تقبل الاحتيال عليها وسرقة عقلها ووعيها بأن هذه الكنيسة هي وكيلة الدين المسلط على الرؤوس وبأن هذا الملك هو نائب الله على الأرض ، الحقيقة غير المحسوسة هو أن هذا النموذج لا يزال قائما ولكن مع تعديلات ديكورية عميقة مسحت معالم الشكل القديم وأحلت مكانه النسخة الأحدث من العصابات الرأسمالية المجردة من أية ديانة أو عقيدة او ضمير سوى عقيدة الشر والايمان بمبادىء الشيطان الخالدة في النار ، لدينا شكل جديد من ( كنيسة ) عميقة تحكم هذا العالم وتمنح الفرمان الديني بقتل وذبح البشر وشاهدنا نموذجا مصغرا منها ، لدينا (ملك ) خاص يقود هذا العالم ويتحكم بكل مجرياته وقطعان الشعوب فيه يتمثل في رؤوس الشركات الرأسمالية العملاقة التي تتضافر في جبروتها مع الشرعية الدينية (الكنسية) الجديدة وكلاهما متأكد أنه بدون الآخر لا يمكنه الاستمرار فالجريمة تحتاج دوما دافعا في ضميرها العدمي مسنودا بنص ديني أو نظرية علمية
إن عملية السرفة الكبرى ماضية كمشروع محوري في العقلية الامبريالية بغض النظر عمن يشترك فيها ، إن السيناريو المرعب الذي تم دسه في تجربة كورونا من الحجز وتعطيل الفطرة البشرية في كل شؤون الحياة وشقلبة حياة الشعوب لا يختلف عن التجربة الكيميائية التي تجري في غزة ولا تلك في أوكرانيا والسودان والقادم أشد هولا ، إن من وضع مثل هذه السيناريوهات يخطط لصدام يفوق التصورات ضمن رؤيته لمعركة غير تقليدية واسعة الحقول ضد روسيا والصين بالذات وفي معية ذلك كل العالم الذي سيتوجب عليه حضور حفلة الموت والدمار والمجاعات وندرة الغذاء وتذوق قطعة من التاريخ الأسود للبشرية التي قررتها خطط الكنيسة والملك الجديدين .
مشكلة السرقات الكبرى أن التاريخ يقاوم اللصوص الكبار ويضع في طريقهم عقبات من نوع خاص تسمى مضادات اللصوصية ، في جوف عمليات السرقة التاريخية تأتي خطوة الهضم كمرحلة تابعة بعد الابتلاع حيث يتكفل الهضم بتحويل المسروق إلى مستحلب وأنزمته وصبغه بصبغة السارق ليكون جزءا شرعيا منه ويتماهى في خصائصه معه تحت كلمة (تطبيع ) ، عمليات الهضم هذه يمكن تسريعها وتحسينها من خلال أنزيمات مضافة تفرزها الضحية تسمى التطبيل للسارق والتطبيل يكون مثلا بوصف المقاومة بأنها (إرهابية ) أو بأنها ( أدخلت الشعب الفلسطيني في متاعب ) أو (تحرير العراق واجتثاث البعث ) أو ( منح الحرية للمرأة الأفغانية ) أو ( تحرير أفغانستان من قبضة الاتحاد السوفياتي ) ، في داخل معدة السارق الكبير يحدث صدام أحيانا ، حيث يكون الشيء المبتلع غير قابل للهضم من الأساس ، تتكون ظواهر مضادة ربما تسبب له عسر هضم وتدفعه إلى تقيؤ ما سرقه بما تسببه من خبط وتلاطم في البطن ، معسرات الهضم هذه تدعى عادة في وعي التاريخ بإسم حركات المقاومة التي تقودها الفئة الصاحية والتي لم تتعرض لسرقة الهوية والوعي بعد .
لو كان من الممكن لكثير من قادة العرب وقادة العالم أن يروا حجم الشر المخفي الذي كبحه صمود وبطولة المقاومة الفلسطينية عن عالم العرب وعن هذا العالم لوقفوا اليوم صفا واحدا في دعم هذه المقاومة ودعم صمود الشعب الفلسطيني ، إن برنامج الخراب العالمي الذي يعده هؤلاء المجرمون لهذا العالم يتفوق على أسوء كوابيسنا ومن الواضح أن سياسات الولايات المتحدة الانتحارية تذهب بالعالم إلى هلاكه المطلق دون أي نوع من الإحساس بالمسؤولية الأخلاقية أو الإنسانية ، إن هذه المقاومة في غزة لم تقدم النموذج الأحدث والأقوى في مقاومة الإنسان للإبادة والمحو والسرقة بحق بلده وشعبه ولكنها تقف سـدا منيعا أمام شر يتربص بالبشرية جمعاء ، لقد أصبحت عاصمة المقاومة العالمية بلا شك والتي تعيد لنا الحياة والمستقبل الذي يسرقه لصوص التاريخ .