هل الذكاء الاصطناعي موّلد او مسرّع للابتكارات العلمية؟
كتب / محمد الربيعي
في فيديوات انتشرت حديثا، ادعاءات مثيرة من قبيل ان الذكاء الاصطناعي سيؤدي الى اطالة عمر الانسان وانه سيجعل الانسان متقدما او متخلفا جينيا (وراثيا) وبأنه يمكن ان يتفوق ويسيطرعلى الانسان ويدير حياته. في هذا السياق، سأحاول هنا الاجابة على السؤال الذي طرحته في العنوان حول دور الذكاء الاصطناعي في حياة الانسان وتقدمه التكنولوجي وعلى امكانيته التي قد تتفوق على الذكاء الطبيعي. مع انه من الضروري ان نفهم ان الذكاء الصناعي هو فعل جماعي ومشارك، حيث يعتمد على تفاعل العديد من الانظمة والخوارزميات لتحقيق اهدافه. في المقابل، يعتبر الذكاء الطبيعي كعملية فردية وشخصية، حيث يعتمد على القدرات العقلية لشخص واحد. لذلك، لا يمكننا مقارنة الاثنين بشكل مباشر، لان كل منهما يعمل في اطار مختلف ويعتمد على اليات مختلفة لتحقيق النتائج. فعلى سبيل المثال، يعمل نموذج اللغة الكبير في الذكاء الاصطناعي بناءً على نظرية الاحتمالات لتوليد النصوص، باستخدام الأساليب الاحصائية بدلاً من العمليات الادراكية او الفهم عند الانسان.
لا شك ان الذكاء الاصطناعي قد احدث ثورة هائلة في مختلف المجالات، بما في ذلك العلوم الاساسية. فمن خلال ادواته المتطورة، يمكننا تحليل كميات هائلة من البيانات، وفهم الظواهر الطبيعية بشكل افضل، وتطوير نظريات علمية جديدة. ولكن، هل حقا يعد الذكاء الاصطناعي “مولدا” للابتكارات؟ ام انه مجرد اداة تساهم في تسريع ظهورها؟ هنا احاول ان اوضح طبيعة الذكاء الاصطناعي ودوره في تسريع الابتكار والاكتشاف، مع التاكيد بأنه من دون فهم للعمليات والظواهر الطبيعية لن يكون للذكاء الاصطناعي دور في التقدم التكنولوجي في العلوم خصوصا البيولوجية والفيزياوية والطبية منها.
تسريع الابتكارات:
لا شك في ان يلعب الذكاء الاصطناعي دورا هاما في تسريع الابتكارات في العلوم الاساسية، ويحدث هذا من خلال:
1. تحليل كميات هائلة من البيانات: تعد البيانات اساس العمل العلمي، لكن تحليل كميات هائلة من البيانات قد يكون صعبا للغاية على البشر. هنا ياتي دور الذكاء الاصطناعي، حيث يمكنه تحليل هذه البيانات بسرعة وكفاءة، واكتشاف الانماط المخفية التي قد لا نتمكن من رؤيتها. في مجال الطب كمثال، يمكن للذكاء الاصطناعي تحليل بيانات التصوير الطبي مثل الاشعة السينية والرنين المغناطيسي، مما يساعد الاطباء على تشخيص الامراض بشكل اكثر دقة وسرعة.
2. فهم الظواهر الطبيعية بشكل افضل: يمكن للذكاء الاصطناعي بناء نماذج محاكاة للظواهر الطبيعية، مما يسمح لنا بفهمها بشكل افضل. في مجال الفيزياء كمثال، يمكن للذكاء الاصطناعي محاكاة سلوك الجسيمات دون الذرية، مما يساعدنا على فهم قوانين الفيزياء بشكل افضل.
3. تطوير نظريات علمية جديدة: يمكن للذكاء الاصطناعي تحليل البيانات العلمية ولربما توليد فرضيات جديدة بالتعاون مع البشر. كما يمكنه المساعدة في اختبار هذه الفرضيات وتطوير نظريات علمية جديدة. ومن الامثلة على دوره في مجال الكيمياء، يمكن للذكاء الاصطناعي تصميم مواد جديدة ذات خصائص محددة، مما يساعدنا على تطوير ادوية جديدة وعلاجات جديدة.
امثلة على انجازات العلوم الاساسية بدعم الذكاء الاصطناعي:
العلوم الطبية:
بالاضافة الى تشخيص الامراض من خلال تحليل الصور الطبية مثل الاشعة السينية والرنين المغناطيسي بشكل اكثر دقة وسرعة، يستخدم الذكاء الاصطناعي ايضًا في تصميم وتطوير ادوية وعلاجات جديدة. علاوة على ذلك، يدعم الذكاء الاصطناعي الطب الشخصي من خلال تحليل البيانات الجينية للمرضى لتطوير علاجات مخصصة لكل فرد.
العلوم الهندسية:
يستخدم الذكاء الاصطناعي في تصميم مواد جديدة ذات خصائص محددة، مثل مواد خفيفة الوزن وقوية في نفس الوقت، وكذلك في تصميم روبوتات اكثر ذكاء وقدرة على التكيف مع البيئة المحيطة. كذلك، يسهم الذكاء الاصطناعي في تصميم انظمة طاقة اكثر كفاءة واستدامة.
العلوم الزراعية:
يستخدم الذكاء الاصطناعي في تحليل البيانات الزراعية لتحسين الانتاجية وتقليل استخدام المبيدات الحشرية والاسمدة، وكذلك في اكتشاف الافات والامراض النباتية في وقت مبكر ومكافحتها. كما يساعد الذكاء الاصطناعي في ادارة الموارد المائية والتربة بشكل اكثر كفاءة.
هل يمكن للذكاء الاصطناعي ابتكار افكار علمية جديدة؟
يمكن للذكاء الاصطناعي ان يلعب دورا هاما في ابتكار افكار علمية جديدة، ولكن من المهم التاكيد على انه اداة قوية تساعد العلماء والباحثين، ولا يمكنه ان يحل محلهم، بل يمكن بالتعامل مع الانسان ان يفتح افاقا جديدة ويؤدي الى ابتكارات ونظريات علمية رائدة. الذكاء الاصطناعي يمكنه تحليل كميات هائلة من البيانات بسرعة وكفاءة، مما يمكن الباحثين على سبيل المثال من فهم الاليات التي تتحكم بالعمر والالغاز البيولوجية بشكل اسرع. ومع ذلك، فان العمل العلمي الحقيقي ينجزه البشر، فهم الذين يصممون التجارب ويحللون البيانات ويطورون النظريات.
بمعنى اخر، يمكن تشبيه دور الذكاء الاصطناعي في العلوم الاساسية بدور الممثل الذي يجسد النص ويوصل رسالته الى الجمهور، لكنه لا يمكنه ادعاء انه هو من كتب المسرحية. لذا من هنا تكمن اجابتي على الادعاءات بامكانية الذكاء الاصطناعي في اطالة عمر الانسان في ان الذكاء الاصطناعي قد يسهم في تسريع وتيرة الاكتشافات العلمية، لكنه لا يستطيع بمفرده اطالة عمر البشر، هذا الانجاز يتطلب فهما عميقا واليات معقدة لا يزال البشر هم المفتاح لفك شفراتها.
ومن المهم ان ندرك ان الذكاء الاصطناعي لا يمكنه:
1. فهم السياق العلمي: لا يمكن للذكاء الاصطناعي فهم السياق العلمي للبيانات والنظريات، مما يعني انه لا يستطيع تطوير نظريات علمية بصورة مستقلة، ولا يمكنه تقييم اهمية الاكتشافات العلمية او تفسير نتائجها بشكل كامل.
2. طرح اسئلة علمية جديدة: لا يمكن للذكاء الاصطناعي طرح اسئلة علمية جديدة، بل يمكنه فقط تحليل البيانات والاجابة على الاسئلة التي يطرحها البشر.
3. تطوير نظريات علمية جديدة: لا يمكن للذكاء الاصطناعي تطوير نظريات علمية جديدة، بل يمكنه فقط تحليل البيانات واختبار الفرضيات.
العلوم الاساسية هي الاساس:
لا ينبغي ان نقلل من دور العلوم الاساسية في الابتكارات التي يسهم فيها الذكاء الاصطناعي. فالعلم الاساسي هو الذي يوفر الاسس النظرية والتجارب التي تبنى عليها التطبيقات العملية. وبدون الفهم العميق الذي توفره العلوم الاساسية، لن يكون لدينا الاطار النظري الذي يمكننا من تطوير تقنيات جديدة او تحسين التقنيات الحالية.
العلوم الاساسية تعنى بفهم الظواهر الطبيعية والقوانين التي تحكمها، وهذا الفهم هو الذي يمكننا من تطبيق الذكاء الاصطناعي بطرق مبتكرة وفعالة. فمثلا، في مجال الطب، يعتمد تطوير تقنيات التشخيص والعلاج على الفهم الاساسي لبيولوجيا الانسان والامراض. وفي مجال الفيزياء، تعتبر النظريات الاساسية حول سلوك الجسيمات والقوى الطبيعية هي الاساس لتطوير تقنيات جديدة في مجالات مثل الطاقة والمواد.
لذلك، يجب ان ندرك ان الابتكارات التي يسهم فيها الذكاء الاصطناعي تعتمد بشكل كبير على الاسس التي توفرها العلوم الاساسية. بدون هذه الاسس، لن يكون لدينا البنية التحتية المعرفية التي تمكننا من تحقيق التقدم العلمي والتكنولوجي.
التحديات:
على الرغم من الفوائد الكبيرة التي يقدمها الذكاء الاصطناعي للعلوم الاساسية، الا انه يواجه بعض التحديات، منها:
1. البيانات المتحيزة: قد تكون البيانات التي يستخدمها الذكاء الاصطناعي متحيزة، مما قد يؤدي الى نتائج خاطئة.
2. قلة الشفافية: قد تكون خوارزميات الذكاء الاصطناعي معقدة وصعبة الفهم، مما قد يقلل من ثقة الباحثين فيها.
3. المخاوف الاخلاقية: قد تثير بعض تطبيقات الذكاء الاصطناعي مخاوف اخلاقية، مثل استخدام الذكاء الاصطناعي في الاسلحة ذاتية التشغيل.
في الختام، مع انه يمكن للذكاء الاصطناعي ان يلعب دورا اكبر في احداث ثورة في مختلف المجالات العلمية، لكنه ليس “والدا” للابتكارات في العلوم الاساسية، بل هو اداة قوية تساعد الباحثين على اجراء اكتشافات جديدة وتطوير نظريات علمية جديدة. ومع الاستخدام المسؤول للذكاء الاصطناعي، يمكننا تسريع التقدم العلمي وتحسين حياة البشرية.