دمشق بين الربيع العربي والخريف التركي..!
كتب / إبراهيم النداف ||
لم يكن للربيع العربي أن يمر على دمشق دون أن يترك جراحه العميقة وآثاره الممتدة. فمنذ أن اندلعت شرارات الربيع في 2011، تحولت سوريا إلى ساحة ملتهبة، حيث تصارعت الأحلام مع الحقائق، والطموحات مع المصالح. لكن دمشق، العاصمة التي كانت دائمًا أيقونة للتاريخ والثقافة، لم تكن مجرد مسرحٍ للأحداث، بل كانت محورًا لصراع قوى إقليمية ودولية.
في قلب هذا الصراع، برز محور المقاومة كخط دفاع أول في مواجهة الهيمنة الغربية والصهيونية. هذا المحور، الذي يضم سوريا، وایران، والعراق، وحزب الله، وحركات المقاومة الفلسطينية، كان ولا يزال الحاجز الأساسي أمام مشاريع التفتيت التي تسعى لفرضها القوى الإمبريالية. لقد أثبت محور المقاومة أنه ليس فقط فكرة سياسية أو تحالف عسكري، بل هو عقيدة تستند إلى إرادة شعوب المنطقة في تقرير مصيرها بعيدًا عن التدخلات الأجنبية.
محور المقاومة كان العامل الحاسم الذي منع سقوط دمشق في فخ التقسيم الذي خُطط له على يد القوى الكبرى. من خلال التنسيق بين قواه المختلفة، استطاع هذا المحور أن يواجه الحرب المعلنة عليه، والتي استخدمت فيها أدوات متعددة، من دعم الجماعات المسلحة إلى الحصار الاقتصادي الخانق.
السهم المكسور: الربيع الذي لم يُزهر
بدأت الاحتجاجات في سوريا بدعوات بسيطة نحو الحرية والإصلاح، تمامًا كما حدث في العديد من الدول العربية. لكن السردية السورية لم تكن كغيرها؛ فالمطالب الشعبية سرعان ما اصطدمت بجدران عناد السلطة، وأدت الردود العنيفة إلى تسارع وتيرة الأحداث. انزلقت البلاد إلى دوامة عنف، اختلط فيها صوت الحرية بأصوات المدافع، وتحولت آمال الشباب إلى كوابيس تقودها الفوضى.
يرى الكثير من المحلّلين أنّ تلك الاحتجاجات لم تكن مجرد حركة شعبية؛ بل رُصدت منذ البداية كمحاولة لجر سوريا إلى حرب تستنزف قدراتها وتجعلها عاجزة عن مواجهة التحديات الخارجية. هنا، تجلت أهمية الموقف الاستراتيجي لسوريا في مواجهة المخططات الغربية، حيث تمسك النظام بمبدأ الاستقلالية، مدعومًا بحلفائه في محور المقاومة.
دمشق، التي كانت في يومٍ من الأيام عاصمة الثقافة والفكر العربي، أصبحت عنوانًا للمعاناة. ولكن رغم الحصار والمآسي، بقيت العاصمة السورية عصيّة على السقوط الكامل، مثل شجرة معمرة تضرب جذورها في عمق التاريخ، تأبى الانحناء أمام العواصف.
الحقيقة العارية: الخريف التركي
في زحمة هذه الأحداث، ظهر الدور التركي كأحد أكثر الأدوار إثارة للجدل. أنقرة التي تصرّ على تقديم نفسها كنظام علماني حديث، كشفت عن وجهٍ آخر حين دعمت شخصيات مثل أبو محمد الجولاني، زعيم هيئة تحرير الشام.
بهذا الدعم، لم تكتفِ تركيا بإظهار تناقضها مع مبادئ العلمانية التي تدّعيها، بل أظهرت أنها تحمل إرثًا أيديولوجيًا يعيد إحياء النزعات الأموية، تلك النزعات التي طالما اشتهرت بتكريس الانقسامات وإذكاء الفتن. فبدا واضحًا أن السياسة التركية الجديدة ليست سوى انعكاس لسياسات قديمة، تلبس قناع الحداثة لتخفي حقيقة طموحاتها الإقليمية.
بالنسبة لمحور المقاومة، كان الموقف التركي مثالًا على التناقضات التي تكشف حقيقة النظام الدولي الجديد، الذي يسمح بتجاوزات تركيا وصمت القوى الغربية عليها، رغم خطابها المُعلن عن حقوق الإنسان والحرية، فتركيا ليست مجرد لاعب إقليمي؛ بل هي جزء من منظومة أكبر تحاول تفكيك محور المقاومة بأي وسيلة ممكنة.
على الجهة الأخرى، سعى النظام السوري إلى الحفاظ على صورة الدولة العلمانية في وجه هذا الطوفان الأيديولوجي. حاول بشار الأسد أن يستعيد شيئًا من إرث سوريا كدولة علمانية، لكنه وجد نفسه بين مطرقة الإرهاب المدعوم خارجيًا وسندان التدخلات الإقليمية التي ادعت “الحياد” بينما مارست أبشع أشكال الانحياز الأيديولوجي ضد المحور المقاوِم.
دمشق: صمود في قلب العاصفة
في عمق هذا المشهد، بدت دمشق وكأنها نقطة التقاء الأضداد: بين قوى تدّعي العلمانية وهي تمارس الطائفية، وأخرى ترفع شعارات الحرية وهي تفرض الهيمنة. لم تكن المعركة على الأرض السورية مجرد معركة حدود أو نفوذ؛ بل كانت معركة هوية، معركة بين مشروع يسعى إلى تفتيت الأمة ومشروع يحاول الحفاظ على وحدتها.
محور المقاومة كان دائمًا يرى في دمشق رمزًا لهذه الوحدة. إن بقاء العاصمة السورية صامدة في وجه أعنف الحروب، لم يكن فقط انتصارًا عسكريًا؛ بل هو انتصار لفكرة أن الشعوب يمكنها أن تتحدى المخططات الكبرى إذا توفرت الإرادة والمقاومة.
ما بعد الفصول: أمل أم سراب؟
في نهاية المطاف، تبقى دمشق رمزًا للصراع العربي في أبهى تجلياته وأكثرها مأساوية. الربيع العربي الذي وعد بالحرية، انتهى بجراح عميقة، والخريف التركي الذي ادّعى حماية الاستقرار، ألقى بظلاله الكئيبة على المشهد.
ومع ذلك، يؤمن محور المقاومة أن الأمل في المنطقة لن يموت طالما بقيت الإرادة الشعبية قائمة. بالنسبة لهذا المحور، القضية ليست فقط بقاء دمشق، بل إعادة بناء نظام إقليمي جديد، لا يكون رهينة للإملاءات الخارجية أو الطموحات الاستعمارية.
السؤال الكبير الذي يبقى: هل تستطيع دمشق أن تستعيد مكانتها كعاصمة للقرار العربي، أم أن الصراعات الدولية والإقليمية ستظل تثقل كاهلها؟
حنين التاريخ يتردد في أزقة دمشق العتيقة، لكن الإجابة عن هذا السؤال ستبقى في يد أولئك الذين يملكون الإرادة لإعادة بناء ما تهدم، ليس فقط في الحجر، بل في الروح أيضًا.