أكذوبة “النظام الطائفي” الآن بدأت الطائفية..كفى تضليلا
كتب / د. ادريس هاني
إنّ حدسي السياسي وخبرتي بسيكولوجيا الجماعات المتطرفة يجعلني غير واثق بهذه المسرحية التي تعكس رغبة عميقة في إهانة سوريا خصوصا وإهانة العرب عموما، حين نضع مصير بلد ذي موقع جيوستراتيجي حسّاس في يد منظمة إرهابية. لقد اختفى خطاب مناهضة الإرهاب، وكلّ شيء كان مرفوضا في العالم وجب تقبُّله حين يتعلّق الأمر بسوريا، حتى الإرهاب الدّولي يصبح في سوريا عنصرا أساسيا في الانتقال الديمقراطي للسلطة. إنّ أخطر من قانون قيصر هو تلك العقوبة التي تستهدف الرأسمال الرمزي لدولة عربية عريقة ومهدا تاريخيا للحضارات الإنسانية. ما الذي يحدث يا ترى؟
سأتحدّث هنا عن أكبر كذبة جعل منها التكرار حقيقة، أعني تهمة النظام السوري السابق بالطائفية. وهي سردية منشؤها الجماعات التكفيرية، ولن أقول الأصولية أو المتشددة، لأنّها تلتف على الأصول متى ذاقت عسيلة السلطة، كما أنها ترقّ دينيّا حين تتحقق مصالحها، أقول بأنّ منشأ تلك الفرية هي نفسها الجماعات الطائفية التي حاصرها النظام السابق حفاظا على النسيج الاجتماعي السوري المتنوع الأقوام والأديان.
ولتفكيك هذه الأكذوبة وتقويضها، سأنطلق من معطيات المعايشة والتجربة. إنّ لديّ أصدقاء من سوريا كُثر لا أكاد أعرف حتى اليوم شيئا عن دينهم أو طائفتهم. ذلك لأنّ النظام السابق زرع في صميم الخطاب التربوي ما جعل الأجيال تكتفي بالانتماء القومي والمواطنة. فالحساسية الطائفية كانت تعبّر عن نفسها بهمس خفيض، لكنها ظلّت مقموعة قانونيا وسياسيا وأمنيّا. فلكي يعبّر بعض المتحرقين الطائفيين عن تلك الحساسيات، فهم يستعملون الهمس السريع، مما يؤكد أنّ الطائفية كانت مُجرَّمة.
ولقد ترك النظام السابق الدين وشأنه للمجتمع ولم يتدخّل. وقد سمعت من الرئيس السابق بشّار كلاما يشير وقوع السياسة السورية في خطأ، حين تم ترك الدين للمجتمع، فهذا أدى إلى سيطرة خطاب القوى المتطرفة. وكانت مدارس إدلب والرّقة خلال 13 عاما أوكارا لغسيل الدماغ الطائفي، حتى بات الانتماء يتقلّص مقابل ارتفاع صوت الطائفية بعد سقوط الدّولة.
لا يوجد يومئذ أسوأ من الحديث عن الطوائف في سوريا. فالتعليم والفنون الجميلة والثقافة والسياسة والأمن، كل هذا كان يُجَرِّم اللّغو الطائفي. وأذكر حين دخلت إلى سوريا قادما من بيروت بداية الأزمة. كنت أحاول أن أفهم. ولكي أفهم وجب أن أدخل بطريقة عادية بعيدا عن أي برنامج يقيدني. التداخل مع المجتمع واستطلاع الرّأي. لكن أمن الحدود استوقفني لأنه لم يكن معي إذن الدخول. أحد رجال الأمن كان متشددا، لكنني أخبرته بأنّ العودة باتت مستحيلة لأنّ الطرف اللبناني سيطالبني بالتأشيرة، بينما موعد حصولي عليها سيكون بعد أسبوع. وإذا بقيت هنا بينكما سأعيد وقائع فيلم الحدود. ومع إصراري، قدموني لرئيس المركز، وحصل نقاش بيننا. لكن في النهاية سمحوا لي بالدخول على أساس أن أمضي تعهدا للضابط الأول بعدم القيام بأي نشاط إعلامي، فأمضيت عليه ولكنني لم ألتزم، لأنّ الضابط لم يكن يعرف هدف زيارتي. وحينها قال لي رئيس المركز: اعذرنا، فالاعلاميون يؤذوننا، ولقد رأيت بأم عينيك أنّ كل هؤلاء الشباب في المركز هم من سائر المحافظات والحساسيات. بالفعل كنت واعيا بهذه المعضلة. فالاعلام الهمجي القادم من الخارج، يستفز التعايش السلمي في سوريا، ذلك التعايش الذي لفت نظري منذ سنوات.
أوّل عبارة عن النظام الطائفي في سوريا سمعتها منتصف الثمانينيات بالصدفة من خطاب لعصام العطار المراقب العام للإخوان المسلمين، وهو زعيم تنظيم الطلائع. لم أفهم يومئذ ما معنى أن يكون نظام يرفع شعار الوحدة والاشتراكية والأخوة وما شابه، أن يكون طائفيا؟ سيصدمني الوضع السوري حين اكتشفت أنّ أخت عصام العطار، السيدة نجاح العطار نفسها كانت من أركان النظام السوري كوزيرة للثقافة ابتداء ونائبة الرئيس أخيرا. فالحكومة تضم المسيحي والسني والدورزي والعلوي والكردي..كما أنّ الفضاء الفني يكتظ بالسني والعلوي والشركسي والكردي والمسيحي ومن كل الأطياف. وهذه المؤسسات تعرفت عليها وعلى أبنائها مباشرة. فلقد قدمت سوريا في العهد السابق مثالا عن الانتماء القومي بعيدا عن الحساسية الطائفية. كانت الدراما التي تدخل بيوت العرب عبر الشاشة الصغيرة تضم هذه المكونات جميعا. ففي العمل المسرحي أو الدرامي الواحد قد تصادف كل هذا الطيف الجميل، مشتل فاخر من التنوع السوري الأخّاذ.
كنت شاهدا على حالات تصدّى فيها الأمن لحالات طائفية، وإصدار قرارات تستهدف تجفيف منابع الطائفية، لا مجال للتّفصيل فيها. لكن حينما يرفع المتطرفون في زهو صوتهم عاليا بأنهم استعادوا المسجد الأموي، يكون ذلك ذروة الاستخفاف بالعقول. فالجامع الأموي ظلّ معلمة مفتوحة أمام كلّ كلّ الحساسيات والسائحين. وحافظ على إسمه، كما يرفع فيه الآذان على الطريقة السنية ويؤمّ الصلاة في الجامع شيخ من السنة، وعلى الجانب الآخر، يوجد قبر صلاح الدين، بل كل أعلام السنة تجد لهم مقامات محفوظة عند كل زقاق. ولا زال أعلى وسام للدولة هو وسام أميّة الوطني الذي قدم لقادة دول وشخصيات وازنة مثل السلطان محمد الخامس، وهلا سيلاسي والوليد بن طلال وأنور السادات وحسني مبارك وقابوس بن سعيد… كما لازال النشيد الوطني الرسمي ينطوي على رموز أميّة كالوليد:
فمِـنَّا الوَليـدُ ومِـنَّا الرَّشِـيدْ
فلِـمْ لا نَسُـودُ ولِمْ لا نَشِـيدْ؟
أتساءل هنا: ما معنى الحديث عن عودة أميّة، وتحرير الجامع الأموي؟
إنّ التضخيم المغرض كان هدفه تسهيل الطريق لتمزيق النسيج الاجتماعي. إنّك تجد لدى العلويين فقراء أكثر من الأغنياء، كما تجد عند السنة أغنياء وفقراء وهكذا في سائر المجتمع. لقد كانت المؤسسة العسكرية هي المؤسسة التي يمكن أن يقصدها الفقراء وذووا الدخل المحدود، هكذا توجه العلويون من قرى الساحل نحو العسكرية، وهو مؤشر على تراجع فرص الغنى لديهم، وليس لأسباب تحبل بها سرديات طائفية. وطبيعي أن نسمع وجود واسطات في مؤسسات، تمكن بعض العلويين من بعض الفرص، وهو أمر لا يقف عند العلويين، بل هو عام. أعرف علويين كادحين غير محظوظين وأعرف سنة أكثر حظا وحظوة في ظل النظام السابق. الوساطة مظهر عام في كل المجتمعات العربية، فنظام القرابة راسخ، والوساطة ليست بدعا في الثقافة العربية، بل هي ظاهرة عربية، فلماذا اختزالها في سوريا، ولماذا المبالغة في التشنيع؟
وكذلك السجون السورية تتسع لجميع الفئات والمكونات، فهي ليست سجونا طائفية. وبغضّ النظر عما تتميز به تلك السجون من شطط حقيقي ومبالغات أيضا، فإنّه في سوريا لا توجد حساسية طائفية إلاّ عند من يبحث عنها، وهي اليوم جاءت مع التكفيريين وبعض الحاقدين، أولئك الذين تزعجهم علوية رأس النّظام لدوافع طائفية.
لا يوجد في العالم نظام قمع الطائفية وخلق ثقافة للتعايش وأوقف زحف الطائفية لما يفوق نصف قرن أكثر من سوريا. كان البلد مهيّأ لحرب أهلية مثل لبنان، وهو ما يفسّر سطوة الأمن وحساسيته المفرطة من هذا الاختراق. إنّ ما تشهده الفضاءات العمومية اليوم من ارتفاع مهول في الخط البياني لخطاب الطائفية يؤكد على ردّة ثقافية داخل سوريا، للوافدين بثقافة محمولة من مدارس التطرف في الأماكن التي هيمن عليها المتطرفون، ومن خارج الحدود، حيث كان ولا زال التفسير الطائفي هو الخدعة الكبيرة التي استغلها خصوم سوريا، للإطاحة بالدولة وإدخال البلد في مشروع حرب طائفية تسبق التقسيم، الشي الذي ما كان بالإمكان القيام به قبل سقوط الدّولة. باختصار: كانت الطائفية في العهد السابق مُجَرَّمَة ومستقبحة، ولكنها اليوم هي خطاب يومي. فعندكل حاجز يسألونك عن طائفتك وليس عن انتمائك الوطني. اليوم وفقط اليوم نحن أمام انبعاث الخطاب الطائفي مع الجماعات المتطرفة ومع التيار الموالي لها على امتداد البيداء العربية.
زرت جرحى الجيش العربي السوري في المستشفيات العسكرية، فكانوا من كل الأطياف يجمعهم الانتماء. فضحايا الإرهاب كانوا من سائر المكوِّنات، كما زرت أماكن إيواء النازحين في الداخل، فكانوا من كل الطوائف والحساسيات. إنّ الخطاب الطائفي تضخّم على ألسن من أرادوها منذ البدء عِوجا، وكانوا يسرّون لي بهذا الخطاب، وبأنّهم ينتظرون فقط الفرصة. وها قد جاءت الفرصة، وحتى الآن لم نسمع من أي جهة القول بأنّ المتطرفين الذين اختطفوا الدّولة جاؤوا على دبّابة البِتاع. تبلّد السؤال متى تعلّق بالوقائع المرافقة للمسرحية البلهاء، ويقظة التبرير متى تعلّق الأمر بمفارقات المشهد.