
فقط أوقفوا الموت في الساح السوري
كتب / د. لينا الطبال
هذه ليست قصة عن الشرق الأوسط. إنها قصة عن الخوف. عن أناس صرخوا ولم يجيبهم أحد، وعن الذين لم يبق لهم من هذا العالم سوى وسائل التواصل الاجتماعي، يرسلون منها نداءات استغاثة إلى عدوهم القديم… ويأملون أن يرد.
نعم، فئة من العلويين هي من أرسلت النداء.
أنا لا أكتب لكي أشرح للعالم معنى الخوف…لا آبه كثيرا لهذا العالم. أكتب فقط لأن هناك شئ ثقيل ومؤلم اسميه الذل، وقد بلغ ذروته حين نادى أحدهم: “إسرائيل… ساعدينا”. ذروة الذل حين تُترك طائفة تحت النار بلا غطاء.
ad
العرب يمررون “سكرولات” منذ الصباح: مجازر، تحليلات تافهة، شقراوات، مباني تنهار، إعلانات لعطور… العرب لا يزعجهم في الدم سوى لونه الأحمر يفضلون طلاءه بلون ذهبي لامع، لون يتماشى مع خلفيات هواتفهم. وسياراتهم. وطائراتهم.
العلويون الذين طالتهم لعنات القرون الماضية، وسجلوا طائفة للسلطة ثم احترقوا بنار سقوطها، بعضهم يطلب الآن الحماية. من إسرائيل؟ من اميركا؟ من روسيا؟ الخوف يصنع كل شيء… فئة من علويي الخارج تجلس في مكاتب لامعة، تنسق كلماتها بعناية، وتطالب بالحماية باسم فئة أخرى ما زالت تحت نيران المجازر ولم تجد الوقت الكافي لدفن موتاها…
ما احدثكم عنه هو واقع، هذه حياة أناس حقيقيين، لهم أسماء ومنازل وذكريات، لديهم عائلات وأولاد وحيوانات اليفة … مثلنا تماما. لكنهم وجدوا انفسهم يدونون أسماء أطفالهم في قوائم سجلات الموت.
ad
كتبت شابة على الفيسبوك: “ما حدث لنا يشبه 7 أكتوبر في إسرائيل.”.. قرأت عبارتها مرتين. لا أعلم هل كانت تدرك تماما ما كتبته. أعرف فقط أنها كانت يائسة… يائسة بطريقة لا تُكتب. اعرف أيضا ان هناك ضحايا من عائلتها، وأن المجازر مرت فوق قريتها… لقد خانها التعبير ولم يخنها المعنى فاستعارت العبارة الوحيدة التي استدعت يوما اهتمام العالم!
هل تدركين يا فتاة ان ما حدث في 7 أكتوبر لم يكن مجزرة، كان فعل مقاومة بوجه عدو محتل؟ لكن ما حدث لعائلتك هو تطهير عرقي نفذه رئيس جمهوريتك لا عدوك… المقارنة وحدها جريمة، حتى لو ولدت من الأسى.
الوصلات على السوشال ميديا تصل الينا عشرات المرات: مقتطفات من الإعلام العبري، منشورات، صور وفيديوهات كلها تتحدث عن علويين يطلبون الحماية. ثم تأتي بعدها، في تدافع غير منسق، فيديوهات أخرى، من علويين آخرين، غاضبين، ناقمين، يصرخون أن من يتكلم باسمهم لا يمثلهم، وأنهم لم يطلبوا شئ من أحد، لا يريدون حماية ولا فتات كرامة… الذين يرفضون طلب الحماية فقدوا أبناءهم أيضا، ويخشون أن تظهر جثث أحبائهم في الفيديو القادم.
المؤلم… أن الجميع على حق !
الغضب لا يلغي الرعب، والرعب لا يصنع خيانة، لكنه يحدث شقوق دقيقة في نبرة الصوت، في طريقة الوقوف وفقدان التوازن، في العين التي تتحاشى النظر طويلا. اجل، الرعب لا يصنع الخيانة، الرجل الخائف لا يخون لأنه شرير، لكن لأنه منهك ويقترب من الجحيم… الخيانة لا تُقرر فجأة، انما تزحف ببطء، ثم ترتكب أخيرا باسم الخوف.
في زمن آخر، كان مجرد التفكير في التحالف مع العدو يثير الخجل.
واليوم، يثير الجدل على تويتر.
عندما ذبحت قرى الساحل السوري، لم يكن أحد هناك.
لا روسيا،
لا أمريكا،
لا العرب…
حتى الشمس غابت في ذلك اليوم.
إسرائيل اسرعت لحماية الأقليات، وزير دفاعها وعد بحماية الدروز. ظهرت إسرائيل كمنقذ إنساني مزودة بمنظومة من الابتسامات المصطنعة. تتكلم عن الحماية وعن الأقليات وعن القلق على المدنيين…
الأكراد فعلوا ما هو أكثر لياقة. قالوا: نحتاجكم !
لم يقولوا: نحبكم، ولا حتى نثق بكم ! فقط: نحتاجكم. وهذه الجملة، في زمن انقراض الكرامة، تعني الكثير.
في هذا الشرق المبعثر لا شيء يولد من العدم. فرنسا وبريطانيا، بعد الحرب الكبرى رسمتا خرائط سوريا: دولة علوية هنا، إمارة درزية هناك، ولبنان أكبر من حجمه الطبيعي فقط لأن الموارنة أحبوا باريس أكثر من دمشق. الإسرائيلي اليوم يقرأ فقط في دفاتر الاستعمار القديمة.
إسرائيل لا تحتاج الى الحرب، لم تعد مضطرة لذلك. الحرب تحدث وحدها، كل يوم. الطوائف تؤدي عملها بكفاءة: السنة يصمتون، العلويون يبادون، المسيحيون خائفون، الآخرون منغلقون في طوائفهم. تفتيت ثم صراع ثم فوضى، فوضى بلا نهاية… ثم تأتي إسرائيل.
الفلسطينيون بحاجة فقط الى بعض الحافلات والطريق معروف الى الأردن، الى مصر، الى اي مكان. لا أحد سيقاوم، لا أحد بقي لديه وقت ليهتم بشيء خارج طائفته… الكل مشغول بمراقبة جاره، بخوفه منه، بكراهيته له.
بعد ذلك ستنبت الكانتونات، وستنشأ الدويلات، تلك التي لا يضحك فيها أحد، سترفرف الرايات المذهبية، وستشيد الجدران الإسمنتية بين جيران كانوا يتقاسمون الخبز وأصبحوا يتقاسمون الحقد.
والمجزرة؟
آه، مستمرة.
كل ما تقرأوه هنا يحدث الآن، تماما كما هو..
ما يجري اليوم لا يشبه نداء استغاثة عادي. هذه ليست أزمة طائفة بقدر ما هي فضيحة وطن! والنتيجة؟
انهيار أخلاقي جماعي.
هذا المقال لا اكتبه لتوزيع اللوم، لكن لوضع الصورة كما هي في إطارها. طلب الحماية من إسرائيل هو سقوط، والخطأ بدأ من هذه اللحظة. الخيانة تبدأ بهدوء، حين يختار القريب منك ان لا يسمعك. يرفع صوت التلفزيون او يذهب لشراء الفاكهة، يتظاهر بأن كل شيء تحت السيطرة ويتابع حياته ويتركك تغرق.
من قال لك ان الخيانة صاخبة؟
هي تواطؤ ناعم، او فعل صغير من لا شئ يترك فيك جرحا مدى الحياة.
الخيانة لا تحتاج الى قرار كبير، ولا الى صراع داخلي، إنها لحظة صمت… لحظة واحدة فقط تتردد فيها عن قول ما يجب أن يُقال، وهنا يبدأ الانهيار.
قد تسألني هل طلب الحماية من إسرائيل جريمة؟
نعم.
لكن الجريمة الأكبر هي في أولئك الذين دفعوهم الى هذا الخيار.
قد اسألك عن موقف السنة من هذه المجزرة؟ سؤال بسيط، لكنه مزعج.
المجزرة تُرتكب باسمهم، ضد مواطنين من نفس الأرض، يتكلمون نفس اللغة، ويرفعون نفس العلم.
هل آن الأوان أن يقولوا شيئا؟ أن يخرجوا عن صمتهم الطويل، عن حيادهم الذي لم يعد حياد انما تواطؤ بالسكوت !
إذا لم تتكلم الطائفة السنية الآن فمتى؟
لا تستطيع مواصلة حياتك وتستيقظ كل صباح لشرب قهوتك ثم تكتب تغريدة عن السلام.
في لحظة المجازر، لا وجود للرمادي.
او أنك طرفا ضدها، او انك طرفا فيها. او انك معنا او انك ضدنا.
الصمت ليس منطقة آمنة. الصمت، هذه المرة هو شهادة مشاركة.
لا أكتب لأدين طائفة، ولا لأمنح البراءة لأخرى! أكتب لأن هناك من يذبح، وهناك من يصمت… ما يحدث الان هو اختبار أخلاقي لشعب كامل، من يشهد على مذابح طائفة اليوم، سيستجدي التضامن حين يتم استهدافه غدا.
المجزرة لا تُفرق، فقط تبدأ باسم واحد،
ثم تشتهي دم الجميع…
في الخارج، كل شيء يبدو قابل للصفقات:
الحكم الذاتي،
الحماية الدولية،
التقسيم الناعم،
لكن من الداخل هناك أناس لا يزالون يربون أبناءهم على الكرامة.
وما تبقى من العلويين اليوم… أولئك الذين لم ينكسروا تحت وطأة الذبح هم طائفة الكرامة.
وأنا؟
في لحظة غباء، لن أتوقف عن الحب،
ولا عن الإيمان بأن هناك، في قرية منسية، في مكان ما من الساحل،
امرأة علوية لا تزال تزرع قلبها في سهول من نور،
تستيقظ كل صباح وترتب فراش ابنها القتيل، وتفتح نوافذ غرفته
على شمس لا تعرف الطوائف.
امرأة واحدة تكفي،
لتذكرنا أن سوريا لم تمت بعد.