
على أنغام رقصة التانغو: ترامب يهزّ العالم اقتصاديًا
كتب / الدكتور وائل عواد
في مشهد يعجّ بالتناقضات والتحولات، يبدو أن الاقتصاد العالمي اليوم يرقص على أنغام التانغو؛ تلك الرقصة التي تتطلب تناغمًا دقيقًا بين الشركاء، لكنها لا تخلو من خطوات مفاجئة وانعطافات حادة. وفي هذا السياق المضطرب، برز الرئيس الأمريكي دونالد ترامب كراقص منفرد، يتّخذ خطوات جريئة، تارة بطيئة وتارة أخرى متسارعة، دون الاكتراث كثيرًا لإيقاع الآخرين.
من أمريكا اللاتينية إلى شرق آسيا، ومن أسواق النفط في الخليج إلى المراكز المالية في أوروبا، تشهد الساحة الاقتصادية تحولات حادة. قرارات سياسية متقلبة، تقلبات حادة في الأسواق، واتفاقيات دولية تعيد رسم خارطة النفوذ الاقتصادي، لتكشف عن عالم تتغيّر معالمه بسرعة، حيث كل خطوة تُتخذ على مسرح التجارة العالمية تقابلها استجابة – أحيانًا محسوبة، وأحيانًا أخرى مباغتة ومشحونة بالعاطفة.
ولم تكن قرارات ترامب بفرض رسوم جمركية على الخصوم والحلفاء على حدّ سواء مجرد خطوة في السياسات الاقتصادية، بل زلزالًا هزّ الداخل الأمريكي قبل أن يهزّ العالم. فقد اجتاحت المظاهرات عدداً من المدن الكبرى، وعانى السوق المالي من اضطرابات حادة، تجاوزت فيها الخسائر 3 مليارات دولار أمريكي خلال أيام قليلة، وسط تصاعد المخاوف من تباطؤ النمو، وزيادة معدلات التضخم، وارتفاع الأسعار، وفقدان آلاف الوظائف.
ورغم هذه الخسائر المبكرة، أصرّ الرئيس الأمريكي على أن قراراته ستحقق نهضة اقتصادية، مؤكّدًا أن الحماية الجمركية ستعيد للمصانع الأمريكية مجدها، وتحمي السيادة الوطنية، وتوفر ملايين الوظائف، وتنعش الحلم الأمريكي. غير أن هذا الخطاب لم يلقَ ترحيبًا واسعًا من الخبراء والمراقبين، الذين رأوا فيه انكفاءً أمريكيًا عن دورها القيادي في الاقتصاد العالمي، وابتعادًا واضحًا عن نهج العولمة الذي طبع العقود الثلاثة الأخيرة.
ad
وإذا افترضنا حسن النية في تبنّي ترامب لسياسات الحماية التجارية، فيبدو أنه يستلهم سياسات القرن التاسع عشر، حين كانت الدول تتبنى الانغلاق الاقتصادي لحماية صناعاتها المحلية. غير أن تعقيد الاقتصاد المعاصر وترابطه يجعل من هذه السياسات مغامرة محفوفة بالمخاطر، خاصة عندما يتعلق الأمر بأكبر اقتصاد في العالم.
من جهة أخرى، لم تقف الدول الآسيوية مكتوفة الأيدي. فقد تحركت بسرعة، لا سيما الصين والهند وكوريا الجنوبية، لفرض إجراءات مضادة، شملت فرض رسوم جمركية على الواردات الأمريكية، وإعادة تنظيم سلاسل التوريد، وتعزيز الشراكات التجارية فيما بينها. هذه الاستجابات لم تكن مجرد رد فعل، بل تعبيرًا عن وعي استراتيجي بضرورة تقليل الاعتماد على السوق الأمريكي وبناء نظام تجاري أكثر استقلالًا وتوازنًا.
الصين، بشكل خاص، قرأت الخطوة الأمريكية باستهداف مباشر لها، رغم أنها أثّرت أيضًا على اقتصادات نامية تربطها علاقات اقتصادية جديدة مع الولايات المتحدة. ومن شأن هذه السياسات أن تلقي بظلالها السلبية على الاستثمارات الصينية في دول مثل فيتنام، ولاوس، وكمبوديا، وميانمار، والتي أصبحت جزءًا من شبكة النفوذ الاقتصادي الصيني.
ad
وتدرك بكين أن السياسات الأمريكية قد تزعزع ثقة الدول النامية بالولايات المتحدة، لا سيما مع غياب أي بديل اقتصادي عملي يوازي النفوذ الصيني. لذلك، ضاعفت الصين من جهودها لتوسيع مبادرة “الحزام والطريق”، وتوطيد نفوذها في مؤسسات مثل منظمة شنغهاي للتعاون، كما كثفت نشاطها في إفريقيا وأمريكا اللاتينية.
الهند، من جانبها، رأت في التراجع الأمريكي فرصة لتعزيز علاقاتها مع دول جنوب شرق آسيا وأفريقيا، عبر اتفاقيات تجارية واستثمارية طويلة الأمد. أما كوريا الجنوبية واليابان، فقد اتجهت نحو تعميق تحالفاتها التكنولوجية، واستثمرت في الابتكار لتقليل الاعتماد على الصادرات نحو الأسواق الأمريكية.
ما نشهده اليوم ليس مجرد تقلبات في الرسوم الجمركية أو الميزان التجاري، بل تحوّلًا في بنية النظام الاقتصادي العالمي. العالم يتجه نحو التعددية القطبية، حيث لم تعد الولايات المتحدة اللاعب الأوحد، بل باتت هناك قوى صاعدة، من الصين والهند، إلى الاتحاد الأوروبي والبرازيل، تتنافس على النفوذ والمساحات.
وفي خلفية هذه المشهدية المتغيرة، لا يمكن فصل الاقتصاد عن الجغرافيا السياسية. قرارات البنوك المركزية، والصراعات على الطاقة والمعادن النادرة، والاصطفافات السياسية، كلها باتت تشكل معزوفة معقدة لا تقلّ تعقيدًا عن رقصة التانغو.
في النهاية، إنه عصر “الرقص الاقتصادي” – من لا يجيد خطواته قد يفقد توازنه، ومن لا يسمع الإيقاع جيدًا، قد يُدهس وسط الزحام العالمي.