هل سقطت الأقنعة عن الوجهِ الدمويّ لكيانٍ يتربّع على المرتبة الأولى عالميًّا في قتل الصّحافيين.. متَى العقاب؟
كتب / عبد الباري عطوان
يحرص الصحافيّون والمُصوّرون الذين يُغطّون الحُروب والأحداث الخطيرة الأخرى، على ارتداء خُوذ وملابس خاصّة مُضادّةٍ للرّصاص، وتتصدّر كلمة صحافة بأحرف كبيرة صُدورهم وظُهورهم سعيًا للحِماية، وتأكيدًا على انتِمائهم لهذه المهنة الشّريفة، فالقاعدة المُتّبعة والمُتّفق عليها هو التّعاطي بحياديّة مع هؤلاء الذين يُضحّون بأرواحهم سعيًا للوصول إلى الحقيقة، إلّا في دولة الاحتِلال الإسرائيلي، حيث باتت كلمة “صحافة” تعني استِهدافَ صاحِبها وقتله فورًا.
قبل أُسبوعين شيّعنا الزّميلين فرح عمر والمُصوّر ربيع المعماري من أُسرة قناة “الميادين” أثناء تغطيتهما للقصف الإسرائيلي للقُرى اللبنانيّة في الجنوب، وبعد بضعة أيّام من تشييعِ الزميل عصام عبد الله مُصوّر وكالة “رويترز” العالميّة الذي قصفت سيّارة كان يقلّها مع عشرة من زُملائه في جنوب لبنان أيضًا، أُصيب تسعة منهم بشظايا صواريخ مُسيّرات إسرائيليّة كانت تترصّدهم، وتتعمّد قصفهم.
***
نخوض في هذا الموضوع الدمويّ المُؤلم اليوم بمُناسبة إصابة الزّميل وائل الدحدوح مُراسل قناة “الجزيرة” واستشهاد مُصوّرها سامر أبو دقة بشظايا صاروخ إسرائيلي “مُتعمّد”، ونقول مُتعمّد بحُكم السّوابق الكثيرة لجيش الاحتِلال الإسرائيلي في مجال اغتِيال الصّحافيين، ولا ننسى في هذه العُجالة عميدة الشّهداء شيرين أبو عاقلة.
الزميل الدحدوح بات “أيقونة” المهنة عندما استشهدت زوجته وعدد من أبنائه وأحفاده في قصفٍ إسرائيليٍّ مقصودٍ لإرهابِه، ورُغم الصّدمة وضخامة الخسارة، واصل عمله في تغطية المجازر الإسرائيليّة بالحماس نفسه، وانتقل من شِمال غزة إلى جنوبها سعيًا للسّلامة، وبحثًا عن بضعة أشهر أو سنوات إضافيّة من العُمر، لمُواصلة المسيرة، وإن كان في قلبِ الأحداث، ووسط الرّصاص والشّظايا، لينجو شخصيًّا هذه المرّة، وبجُروحٍ مُتوسّطة، ولا نملك إلّا الدّعاء له بالشّفاء العاجل، والرحمة للشهيد ابو دقة.
إسرائيل التي يرتكب جيشها مجازر وحرب إبادة وتطهير عِرقي في قِطاع غزة مُنذ غزوها قبل 70 يومًا تقريبًا بلغ حصيلتها 20 ألف شهيد تقريبًا وحواليّ 55 ألف جريح، وتدمير نِصف منازل القِطاع، تتربّع بكُلّ ثقةٍ على المرتبة الأُولى عالميًّا في اغتِيال الصّحافيين، وانتِهاك حُقوقهم، ومُلاحقتهم، بهدف كتْم أصواتهم، وصُور كاميراتهم، والتّغطية على جرائمها المذكورة آنفًا التي ترتكبها في حقّ الشّعبين اللبنانيّ والفِلسطينيّ.
جيش الاحتلال اغتال حتّى الآن 89 صِحافيًّا مُنذ بدء الحرب في قِطاع غزة، واعتَقل ثمانية منهم، حسب توثيق المرصد الأورومتوسطي لحُقوق الإنسان، ولا نعتقد أن الاغتِيالات ستتوقّف عند هذا الرّقم في ظِل وجود خطّة إسرائيليّة لترهيب بنات وأبناء المهنة، وطمْس الحقائق، وإخفاء المجازر وجثامين ضحاياها المُمَزّقة.
لم يحدث في تاريخ الحُروب قصف المُستشفيات والمدارس والكنائس والمساجد، والقذف بالمرضى، والأطفال الخُدّج إلى الشّارع، وقطع كُل إمدادات الدواء والغذاء والماء والطّاقة عن المدنيين العُزّل، ومنْع إخراج الضّحايا من تحت الأنقاض إلّا في هذه الحرب الإسرائيليّة المُتأجّجة في قِطاع غزة، وبدعمٍ ومُشاركةٍ مُباشرةٍ من قِبَل أمريكا زعيمة العالم الحُر، وحامية حُقوق الإنسان في العالم.
رصاصُ التّرهيب وشظايا الصّواريخ الإسرائيليّة لن تمنع الزّملاء في غزة والضفّة ولبنان من مُواصلة مسيرتهم المُقدّسة في تمزيق الأقنعة، وإظهار وجوه الحقد والكراهية والتعطّش لسَفكِ دِماء الأطفال والنّساء والعجَزة على حقيقتها، وإيصال الحقيقة بكُلّ تفاصيلها البشعة إلى كُلّ مكانٍ في العالم.
***
الرّحمة لكُلّ الشّهداء ضحايا النازيّة الإسرائيليّة، سواءً من أبناء المهنة أو أهلهم وأشقّائهم في غزة والضفّة وجنوب لبنان، وكُل المنافي في العالم، والدّعاء للمُصابين بالشّفاء العاجل، وعلى رأسِهم الزّميل الدحدوح، فجميع الزّملاء في ميادين المعارك هُم مشاريع شهادة.
وختامًا نقول إنّ الزميل الصّحافي الفِلسطيني سلمان البشير الذي خلع ملابسه وخوذته الواقية من الرّصاص، ومزّق كلمة الصّحافة التي تتصدّر صدرها وظهرها، لأنها لم تعد لها أيّ قيمة في نظر عدو لا يلتزم بأيّ أخلاق أو قيم أو إنسانيّة، ويتلذّذ في قتل رجال الصّحافة، نقول للزّميل سلمان البشير لقد أصبت كبد الحقيقة، ولخّصت جرائم الجزّارين بالطّريقة الأقوى تعبيرًا وتشخيصًا.