بين الاستبداد والرياء: قراءة في صمت الضمير العربي..!
كتب / د. عامر الطائي ||
إنَّ الأمم حين تَختلُّ موازينها، وتَضعف أركان ضميرها الجمعي، تُصبح عاجزة عن التمييز بين ما يوجِب الغضب وما يستحق الصمت، بين ما يَستحق النضال وما يُستباح من دماء وكرامة.
فحين تقوم الدنيا ولا تقعد لصنديانة سُجنت ظلماً في مكانٍ من بلاد الشام، فإنما ذلك لكون الإعلام العربي ارتأى أن يَرفع عقيرته بالاحتجاج، لا حبًّا بالعدالة، ولا إيمانًا بالحق، ولكن لأنَّ تلك الأصوات التي تُزمجر لا تُطلقها النخوة الصادقة، بل تُحرّكها الأهواء، ويقودها الرياء السياسي الذي طالما وَسَمَ زماننا هذا.
إنَّ الظلمَ الذي نراه في تلك الأرض التي تسوسها نظم استبدادية قديمة لا يُقارن بوحشية تلك النسخة البعثية التي وُلدت في العراق، نسخةٍ غَدت مثالاً على الطغيان الطائفي الأعمى، تَصدّر فيها الجهلاء، وعبث بها المجرمون، حتى أحالوا أرض السواد خرابًا، وسَلَبوا الإنسان حقَّه في الكرامة والحياة. بيد أنَّ الحديث عن حزب البعث السوري، مهما كان ظلمه، لا يُماثل ما اقترفته تلك النسخة العراقية التي كَسَرت كلّ حدود الطغيان، وصارت وحشًا مسعورًا لا يفرق بين الأبرياء وغيرهم، ولا يُبالي سوى بإشباع نزواته المقيتة.
على الرغم من هذا، فإنَّ الإعلام العربي لم يَصرخ يومًا حين كانت السجون العراقية تَبتلع الأحرار، ولم تَرفع الأقلام شعار النخوة عندما دُفِنَت أصوات المظلومين في القبور الجماعية. ذلك الصمت الذي بات يَشي بخوفٍ مشينٍ لا مبرر له، يُفَضَح أكثر حين يُقارن بالتحركات الإعلامية المزعومة ضد قضايا أخرى، وكأنَّما العَدل يُقاس بالمصالح، وكأنَّما الشعوب تُقسَّم إلى درجات، بعضُها يستحق الاهتمام، وبعضها الآخر يُلقى به في الظل.
ولأنَّ المصائب لا تأتي فُرادى، فإننا نَشهد اليوم زيفًا آخر، تَتمثَّل فيه الأنظمة العربية الجديدة، تلك الأنظمة التي باعت القيم والمبادئ، واصطفت في طاعة الاحتلال الصهيوني، كأنَّها قد فقدت البصر والبصيرة. فأيُّ إسلامٍ هذا الذي يَزعمون التمسّك به؟
وأيٌّ خضوعٍ مذلٍّ ذاك الذي يَغُضُّ الطرف عن مجازر تُرتكب يوميًا في فلسطين المحتلة، بينما يُجيش الإعلام نفسَه ليصرخَ في وجه طغاةٍ آخرين، دون أن يكون للحق نصيب في كل هذا الصراخ؟
إنَّ الأمة التي تَتنازل عن قِيَمها تَبيع روحها، والأمة التي تَصمت عن طُغيانِ مَن كانت تُهلل له في وقتٍ سابق، تُشارك في الإثم وإنْ صامت. فقد رأينا كيف دُمِّر العراق تحت عناوين كانت تُشبه الحق وما هو من الحق في شيء، وكيف تواطأت ألسنة الإعلام وأقلامه، لتُسدل الستار على مَن استباح الحرمات، وسرق التاريخ، وأباد الجغرافيا.
فليس عجيبًا أن يَصرخ إعلامنا حيث يُراد له أن يصرخ، وليس غريبًا أن يصمت حيث يُطلب منه الصمت. وإنما العجب كلّ العجب أنَّ الأمة العربية، وهي ترى بعينيها هذا العبث، ما زالت لم تُحَاسِب نفسها، وما زالت لم تُجِب على سؤال طالما أرق ضمير التاريخ: متى يُعاد للحق ميزانه؟ ومتى تُكسَر قيود الخوف والنفاق؟
إنَّها أسئلةٌ لن يَجرؤ على إجاباتها إلا أولئك الذين لم يَبعوا ضمائرهم، ولم تُرهِقهم تلك السنوات الثقيلة من الاستبداد والخذلان.