أزمة الانسلاخ الثقافي في ظل العولمة الرقمية
كتب / د. عامر الطائي ||
لقد أصبحت الملتميديا ووسائل التواصل الاجتماعي اليوم القوة الأعظم في تشكيل الوعي والسلوك الإنساني، بل تجاوزت حدود الإعلام لتصبح مصنعًا للهويات الوهمية التي تستهوي النفوس وتغوي العقول.
والمفارقة الكبرى أن هذه القوة العاتية وجدت سبيلها إلى بيوت المتدينين أنفسهم، حيث صار الأبناء والبنات ينجرفون مع التيار بلا وعي، متخلّين عن قيمهم وأصولهم الثقافية، وكأنهم ممثلون على خشبة مسرح غربي، يقلّدون أزياءه وأدواره دون إدراك.
من منظور علم النفس الإسلامي، فإن المشكلة تكمن في غياب “التربية النفسية الإيمانية”، تلك التربية التي تهدف إلى بناء الذات المؤمنة الواعية القادرة على مواجهة تيارات الانحراف.
في ظلّ هذا الغياب، يصبح الفرد هشًّا أمام زخارف الحياة، يبحث عن قيمته في المظاهر الخارجية بدلًا من الجوهر. أمّا علم النفس الوضعي، فيرى أن الظاهرة نتيجة مباشرة لتأثير “النمذجة الاجتماعية” حيث يتعلم الأفراد تقليد ما يرونه في محيطهم الافتراضي. الفتيات والشباب اليوم يجدون أنفسهم أمام صور ومقاطع تروّج للجمال المثالي والمظاهر البراقة، فينجذبون إليها باعتبارها معيار النجاح والتقدير الاجتماعي.
لكن كيف يمكن معالجة هذه الظاهرة؟
أولًا، يجب أن تعود الأسرة إلى موقعها كـ”مدرسة أولى”، تزرع في أبنائها الوعي النقدي تجاه ما يشاهدونه، بحيث يتحوّلون من متلقين سلبيين إلى محللين واعين قادرين على تمييز الزيف من الحقيقة.
ثانيًا، يجب أن يتم تعزيز قيمة الهوية الثقافية والدينية من خلال ربط الأبناء بتاريخهم وقيمهم بأسلوب محبب وغير تقليدي.
ثالثًا، لا بد من استخدام نفس الوسائل التي تسهم في الانحراف – أي وسائل التواصل – ولكن بهدف بناء محتوى إيجابي وجاذب ينافس المحتوى السطحي الذي يهيمن اليوم. وأخيرًا، فإن التربية النفسية الإيمانية التي توازن بين الروح والعقل يجب أن تعود كمحور رئيسي في المناهج التربوية، بحيث يصبح الفرد أكثر وعيًا واستقلالية أمام كل ما يعترضه من تيارات.
إن المعركة ليست مع أبناء هذا الجيل، بل مع القوى التي تسعى إلى إفراغهم من هويتهم. وما لم نأخذ بيدهم نحو الوعي الذاتي العميق، فسنفقدهم تدريجيًا في عالم بات يتاجر بكل شيء، حتى بالإنسان نفسه.