سراقنا يحققون السبق على أقرانهم في بقية البلدان
كتب / د. باسل عباس خضير ...
السرقة والفساد وجهان لسلوك مشين ترفضه المجتمعات والأديان و نشاطهما لم يتوقف يوما في كل البلدان وهناك من يعتقد إنهما يرتبطان بالطبيعة البشرية حين يتغلب فيها الشر على الخير في النوايا والأفعال ، والسرقة في بلدنا ليست حديثة العهد وجذورها التاريخية تمتد لأمد غير معلوم ومن رموزها ( علي بابا ) الذي كان يطلقه المحتلون على البعض في 2003 وفي مواقف من تاريخ مجتمعنا كانوا يربطون بين الشجاعة والقدرة على السرقات ، والبعض كان يتخذ من السرقة لإثبات شيء ما لنفسه او لسد متطلباته وحاجاته الأمر الذي يجعل من الكشف عن السراق ميسرا للسلطات ، ولان السرقة تتصل بالشر فإنها غالبا ما تتحول لعادة وإدمان لاسيما حين يفلت السارق من العقاب لمرة ومرات ، فالقوانين السماوية و الوضعية تضع جزاءات وعقوبات وقد خصها قانون العقوبات العراقي رقم 111 لسنة 1969 بعدة مواد ووضع لها رادع ليحمي المجتمع من أعمال السراق ، ورغم كل ما قيل ويقال عن السرقات التي وصلت عقوبتها للإعدام إلا إنها لم تنقطع يوما ، وعلى وفق المؤشرات والإحصاءات فإنها تزداد وتتطور كما ونوعا لعدة أسباب أبرزها غياب الضمير وغفلة ( الناطور ) ، ولان السرقة شكلا من أشكال الفساد فان بلدنا قد تفوق في ممارستها من حيث الحجم والسرعة وبات يحتل مرتبة متقدمة عند المقارنة مع بقية البلدان ، وقد كشف مؤشر مدركات الفساد في العالم (CPI) لعام 2022 الصادر في بداية العام الحالي ان العراق احتل المرتبة السابعة عربيا والـ 157 عالميا لأكثر الدول فسادا بين 180 دولة مدرجة على قائمة منظمة الشفافية الدولية وهو من البلدان التي لم تحرز أي تقدم يذكر لمعالجة الفساد منذ عام 2017 ، وحسب رئيسة منظمة الشفافية الدولية ( ديليا فيريرا روبيو) فان الفساد جعل العالم مكاناً أكثر خطورة لأن 95% من الحكومات فشلت بشكل جماعي في إحراز تقدم ضده وممارساته تغذي الارتفاع في العنف والصراع وتعرض الناس للخطر في كل مكان .
والسرقات الأكثر خطرا على الشعوب تتعلق بالسرقة من المال العام تحت أي عنوان او مبرر او تبويب فهي ليست سرقة من فرد وإنما من شعب خاصة عندما يكون ذلك المال وسيلة الناس في الحياة ، وهي الأكثر شيوعا عندنا ولا نحتاج لبراهين لإثباتها فالدولة أنفقت أكثر من تريليون دولار خلال 20 سنة وأثرها محدود على التنمية فلا نزال لحد اليوم نحلم بالمترو وقطارات الإنفاق ونفتقر لأبسط المتطلبات من الاحتياجات ومعيشة الكفاف لنسبة مهمة من السكان ، وحسب ما يتم التصريح به علنا فان جزءا مهما من الإنفاق يذهب للسرقات ، وهناك من يسال كيف يمكن أن تستمر السرقات بهذا الحجم الكبير رغم تعدد أجهزة الرقابة والتفتيش ورغم امتلاك العراق لأكبر جهاز إداري في المنطقة والعالم من حيث عدد الموظفين ونسبتهم من السكان ، والجواب لا يحتاج إلى جهد كبير لأنه واضح ومعروف ، وهو إن نمط السرقات الذي يمارس في بلدنا وان كان حاله حال أي فساد في العالم ومكافحته والتصدي له موجود في النوايا وبعض الأفعال وفي الخطب والشعارات والحملات ، إلا إن السرقات عندنا تختلف عن مثيلاتها فالسرقة عندنا ليست جامدة وإنما تتصف بالدينامكية الحرة من حيث القدرة على التغير مع الظروف والمستجدات ، فقد بات بعضها مثل الكائن الحي ينمو ويتكيف وله عيون وأذان و انف و( كرون ) كما إن لها ارتباطات وامتدادات لتكون محمية في الملمات ، وسابقا كانت معالم السرقات تغطى بأعمال غسيل الأموال وتهرب أموالها للخارج لتحويلها لمدخرات واستثمارات ، وحين ساءت الأمور في تلك الحاضنات بسبب الازمات التي تعرضت لها الدول او الرصد الدولي أخذت تتحول للداخل ، من خلال توظيف الأموال في أي نشاط سواء المخدرات او شراء العقارات او بتحويلها لأراضي وإعادة بنائها او تحويلها لإشكال استثمارية مدرة للأموال لكسب الإيرادات التشغيلية والتضخم الذي يصنعونه في الأسواق وبفضل تلك الأعمال ( تورمت ) أسعار العقارات .
وقد يقول البعض إذا كانت الأموال تسرق ويصعب الرقابة عليها ومحاسبة مرتكبيها وإذا كانت معظم السرقات غير قابلة للتحويل الخارجي وباتت توظف باستثمارات في الداخل فلماذا لا نسهل الحال ونجعل من ذلك امتياز يستفاد منه الشعب؟! ، ولعل أصحاب هذا الرأي لا يدركون ما تتركه أموال السرقات من اثار على الأسواق والوضع العام ، فالمشاريع التي تنفذ من قبلهم غالبها استهلاكية ولا تعبر عن الاحتياج الفعلي للسكان و تتجه نحو الربح السريع من باب تغطية التكاليف المرتفعة فاغلب ما ينفذوه بأعلى الأسعار وأحيانا خارج معايير الجدوى والجودة والأمان لكي لا ينافسهم احد ، وحسب رواية احد دلالي العقارات في مناطق بغداد فان هناك من يتصل به ويبلغه بشراء كل ما يعرض من العقارات وبأي سعر وبما لا يترك مجالا لغيره بالشراء ، كما إن تنفيذ المشاريع يتم سريعا وبشراء الذمم والرشاوى وخارج الضوابط لكي لا تتأخر او تتوقف الأعمال ، والبعض مما ينفذ لا يكون بالأسماء الحقيقية وإنما بأسماء الأقرباء والنسباء او بقية الأشخاص بضمانات ، وان جزءا مما ينفذ لا تذهب إدارته لأصحاب الخبرة والكفاءة والاختصاص وإنما ( للعتاكة ) الذين يديرون الأعمال بجشع وطمع بالمال مما يوقعهم بالأخطاء واغلبها تتم تغطيتها بإغراء غيرهم من صغار السراق بالمال او تخويفهم باسم المالك الحقيقي او تدخله إن تطور الحال ، والأمثلة الواقعية لذلك كثيرة ويتم تداولها من قبل الكثير حين يشيرون لذاك وهذا ولفلان ، وهناك مشاريع انشإت بعدة مليارات وإذا تم حساب العائد على الاستثمار او نقطة التعادل او بأية بوسيلة اقتصادية وعلمية لو جد إنها خاسرة وستبقى كذلك لسنوات ولكن تنفيذها تم لاستنفاذ ما يملكوه ولتقليل سيولة الأموال في ظل فقر العمل المصرفي المحلي ، وان مخرجات السراق غالبا ما تنشا ظواهر وحالات اجتماعية ترفع من مستويات الفوارق الاجتماعية وتنمي الغلاء وتزرع اليأس والإحباط في نفوس الآباء و الأبناء ، و انتشار السيارات الفارهة التي تشترى بعشرات الدفاتر وشيوع الإكسسوارات الباهظة من الساعات والعطور والمقتنيات وازدهار النوادي وغيرها من الحالات .
ليس هناك حاجة لمزيد من الاسترسال بالموضوع ، فالكثير من أبناء الشعب باتوا يدركون ويلاحظون هذه الأمور وليس بيدهم الحلول ، والبعض من هذه المظاهر باتت تتفاقم وتتفوق على إجراءات معالجتها لأنها تنمو بدرجات ومستويات أعلى من الحلول التي تكرس لها والتي غالبا ما يصطدم بعضها بعقبات في التنفيذ ، وعند النظر والتحليل لأغلب المشاكل والحوادث والحالات التي حصلت في البلاد منذ عقود او سنوات فان مسبباتها وتداعياتها والتغطية عليها تقع ضمن هذه الحدود ، وهي مسالة باتت معروفة ومن الممكن أن تتكرر هنا او هناك كما يمكن أن تتطور وتتعقد وتحقق السبق في كل الاشياء مادام أصل الموضوع بلا حلول .